صار مسلّماً به أن لبنان هو تحت مجهر المؤسّسات الاقتصادية الدولية. وهذه المؤسّسات وسواها لا تراقب المؤشّرات والأرقام فقط، بل تهتمّ أيضا بمجمل الشروط الدستورية والقانونية والأمنية التي تؤثّر على الحياة الاقتصادية، وعلى بيئة الأعمال.

من أهمّ المعايير المطلوبة في هذا الإطار هي سيادة القانون وسلامة النظام القضائي واستقلاله عن السلطة السياسية.

الجدل الدائر بشأن إحالة حادثة “البساتين” على المجلس العدلي لا يتوقّف ضرره على تعطيل مجلس الوزراء فحسب، بل يتعدّاه إلى ما هو أبعد من ذلك. إنه يكشف خللا خطيرا في نظام لبنان القضائي، حيث تستأثر المحاكم الاستثنائية، وخصوصا المجلس العدلي والمحكمة العسكرية، بحصّة كبيرة في بتّ المنازعات ذات الطابع الجزائي. يجب إلغاء المجلس العدلي نهائيا، وحصر اختصاص المحكمة العسكرية بمخالفات العسكريين فقط، على أن تترك باقي الأمور كلها للقضاء العادي.

يتجدّد الانقسام السياسي و”القانوني” والطائفي في وقت قاتل للاقتصاد اللبناني. فالبلاد بأمسّ الحاجة إلى حكم موحّد، قادر على اتّخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الشجاعة لأن المعالجات المطلوبة هي معالجات صعبة ومؤلمة وبعيدة المدى.

تجربة موازنة 2019 التعيسة أكّدت أن موازنة سنة واحدة، أو نصف سنة، لا تحدث تغييرا يُذكر في الوضع الاقتصادي والمالي. هذا ما ستثبته الأشهر المتبقية من هذا العام.

بناء على هذه التجربة، وبما أن وزارة المال بدأت بتحضير موازنة 2020، لا بدّ من لفت نظر الدولة، بكل تواضع، إلى أن الإصلاح المالي ومعالجة الاختناقات الراهنة في المالية العامّة والاقتصاد يفترضان وضع موازنة لثلاث أو خمس سنوات، ضمن برنامج إنقاذي متوسّط المدى.

اعتُمدت الموازنات لآجال متوسّطة وطويلة في معظم البلدان التي فرضت ظروفها إصلاحات هيكلية في ماليتها العامّة، مثل الدول التي كانت ترزح تحت مديونية كبيرة أو تلك التي انتقلت من نظام الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق.

أمامنا مثلٌ قريب منا جغرافياً وزمنياً، هو التجربة المصرية.

وصلت مصر إلى نهاية عهد الرئيس حسني مبارك، كما استمرّت خلال عهد “الإخوان المسلمين”، وهي ترزح تحت أعباء لا تقوى على حملها الجبال: عجز كبير في الموازنة، فشل ذريع للسياسة النقدية، انهيارات متلاحقة لسعر صرف الجنيه المصري، ذوبان الاحتياطات الخارجية، نسب شديدة الارتفاع للتضخّم والدين العام. يضاف إلى كل ذلك، وكنتيجة له، هبوط معدّل النموّ الاقتصادي وارتفاع مؤشّر البطالة.

وضعت مصر سنة 2016، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، برنامجا متوسّط الأجل للإصلاح والإنقاذ يمتد على ثلاث سنوات. وقد حظي هذا البرنامج بدعم صندوق النقد الدولي الذي وفّر لمصر قرضا بقيمة توازي 12 مليار دولار، استُنفد بكامله. إن ضخامة المشاكل العضوية المتوارَثة للاقتصاد المصري وجسامتها، مثل الفقر والبطالة، وعبء القطاع العام وعدم فعاليته، لا تسمح بأي طموح بإنهاء مشاكل مصر هذه في ثلاث سنوات.

مع ذلك، حقّق برنامج السنوات الثلاث نتائج باهرة، بشهادة صندوق النقد والبنك الدوليين والعديد من المؤسّسات الدولية المتخصصة. فقد ارتفع معدّل النموّ الاقتصادي من 4 بالمئة عند البدء بتطبيق البرنامج إلى 5.5 بالمئة في الوقت الحاضر، ويرتقب وصول هذا المعدّل إلى 6 بالمئة سنة 2020.

شهدت الحسابات الخارجية تحسّنا على أكثر من صعيد. كما هبط معدّل البطالة إلى9 بالمئة، وهو أدنى معدّل له خلال عقد، وبدأ الدين العام بالانحسار وكذلك نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي. وينتظر هبوط التضخّم إلى أقلّ من 10 بالمئة من الناتج. أما الجنيه المصري الذي تعرّض لانهيارات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، فقد بدأ سعره بالتحسّن بعد ثمانية أشهر من الاستقرار.

إن وزير ماليتنا علي حسن خليل، الذي أتى إلى المالية من خلفية سياسية، أثبت مقدرته على استيعاب شؤون وزارة المال ووظائفها المتشعّبة بسرعة لافتة، كما أظهر جديّة وديناميكية في عمله. وهو قادر على ترك أثر بارز في الوزارة، في مناسبة إعداده لموازنة 2020، إذا نجح في إقناع الدولة بأن تضع، إلى جانب الموازنة السنوية، برنامجا ماليا لخمس سنوات.

د. غسان العياش نائب سابق لحاكم مصرف لبنان

السبت 3 آب 2019 جريدة النهار

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *