خاص: واقع المسيحيين في بعلبك
المطران رحال: كنيستنا مفتوحة نوابنا غائبون..الشيخ الرفاعي: المسيحيون حاجة

فكتوريا موسى –


لا تشبه حارة المسيحيين في بعلبك أي حي آخر من حيث الهدوء والسكينة. هذه الحارة التي سميت في الماضي “الملتقى” لكثرة ما جمعت أبناء المدينة، فقدت ديناميتها المعهودة نتيجة نزوح أهاليها المسيحيين المتواصل منذ عقود.


لكن ورغم الظروف الصعبة التي مرّت بها المدينة، فقد نجحت برأي أبنائها وبعض من التقيناهم من المسيحيين المقيمين، باحتضان من تبقى من سكانها ونسج أفضل العلاقات الإجتماعية.

هذه المسألة بحيثياتها وتبعاتها كانت محور لقاء لBekaa.com مع راعي أبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك سيادة المطران الياس رحال والمفتي السابق لبعلبك-الهرمل سماحة الشيخ بكر الرفاعي في بيت الضيافة البعلبكي. وشاركنا النقاش السيد إيهاب رعد والصحافي حسين الحاج حسن وعدد من الأصدقاء.

إنطلق النقاش من واقعين متوازيين. الأول مدى الترابط العاطفي والاجتماعي الذي يجمع البعلبكيين على اختلاف طوائفهم وبدا ذلك بشكل واضح ليس فقط في اللقاء الحار والإنسجام بين سيادة المطران وسماحة الشيخ وإنما أيضا لدى كل من التقيناهم في المدينة، يقابله واقع النزيف الشديد للوجود المسيحي!

الواقع المسيحي

ذكّرنا المطران رحال بأن المسيحيين شكّلوا ثلث أهالي مدينة بعلبك في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن “الأحداث” من هنا وهناك دفعت بالكثيرين الى بيع منازلهم والرحيل عن المنطقة، مما جعل من عودتهم مسألة عسيرة. وإذ أبدى عتبه على المطران السابق – السلَف – لعدم بذل جهود حقيقية لثني هؤلاء عن البيع، قال: “لا نستطيع في نهاية المطاف منع أحد من المغادرة خصوصا لأسباب مهنية أو للتحصيل العلمي، فالمنطقة منذ قيام لبنان الحديث مهمَّشة الى أقصى الحدود، أهملتها الدولة إنمائياً واجتماعياً ونوّاب المنطقة غير مكترثين!”. وتابع: ” لو كنتُ مطرانا على بعلبك في تلك الفترة لعملتُ جاهدا على الحد من ظاهرة البيع. فجلّ ما أتمناه أن تعود المدينة إلى سابق عهدها تعج بمسيحييها وبالزوار والسياح. ولكن لن نفقد الأمل في نجاح محاولات اجتذاب الأهالي ولو للزيارة.

وتابع: أثبتت بعلبك أنها عنوان التآخي غير المزيّف والعيش الواحد وليس المشترك. فمطرانيتنا وكاتدرائية القديسة بربارة ابنة بعلبك مفتوحة للجميع وهي شفيعة بعلبك إلى جانب مار الياس الحي. كما ان قداس الأحد قائم أسبوعيا بحضور من تبقى من المسيحيين. واعتدنا أن نجمعهم سنويا من كل قرى قضاءي بعلبك والهرمل في عيد قديستنا لنحتفل بالمناسبة. وفي الميلاد وأحد الشعانين ننظم مسيرة العيد في شوارع بعلبك حيث ينتظرنا المسلمون بكل ترحيب.

وعن الحريات الدينية للمسيحيين في بعلبك ومجمل المحافظة، شدد المطران رحال على أنها مطلقة لا بل مقدسة من قبل أبناء المنطقة فلا أحد يضايق المسيحيين، مستشهدا بقول البطريرك الراحل صفير: “نحن قوم أحببنا الحرية، ومن دون الحرية لا يمكننا أن نعيش “.

لم تكن وجهة نظر الشيخ الرفاعي مختلفة، إذ أكد أنه يتوافق مع المطران رحال على أن ازدهار بعلبك يُنسب تاريخيا إلى العنصر المسيحي خاصةً الذي أنعش سياحتها بما في ذلك مطاعمها وفنادقها وهياكلها. واعتبر أن المدينة عادت عقودا الى الوراء على وقع تراجع الوجود المسيحي الذي يُعتبر حاجة لها ولمسلميها قبل أن يكون حاجة للمسيحيين المقيمين فيها، مشددا في هذا الإطار على أن الوجود المسيحي يخفّف من غلواء التطرف ويشكّل ضمانة للإعتدال، فبفضله اتفق المسلمون سنة وشيعة على ركيزة مفادها بأنهم اذا استطاعوا بناء مساحات تفاهم مع الآخر، فالأولى لهم بناء هذه المساحات في ما بينهم، غامزا من قناة عدد من الدول العربية التي اندلعت في ربوعها الفتنة السنية-الشيعية بعد زوال أثر المسيحيين منها.

إلى ذلك، شدَّد الشيخ الرفاعي على الإنفتاح الكبير على المطران رحال شخصيا، وعلى الإصرار الدائم من قبل فعاليات بعلبك الدينية والاجتماعية والثقافية على أن يكون على رأس المدعوين لأي مناسبة وعلى أن يؤخَذ رأيه دائماً. وقال: كلمتنا واحدة ووجودنا معا في كل المناسبات رسالة بحد ذاتها.

على خط آخر، رأى الشيخ الرفاعي أن “هناك من يسكنون بعلبك، وهناك من تسكنهم بعلبك” فالأخيرون خدموا المدينة أحياناً أكثر من أبنائها. وعلى سبيل المثال الرئيس الراحل كميل شمعون الذي كان له الفضل بوضع بعلبك على خريطة لبنان عدا عن إطلاق مهرجاناتها فقدم لها بذلك أكثر مما قدم الجميع. ومثال ثان الشاعر عبد الحليم الحجار ابن بلدة شحيم الشوفية الذي عشق بعلبك وأصبح قائمقامها وتوفي فيها وما زال يترحم الجميع على إنجازاته على صعيد البنى التحتية خصوصا. وغيرهم الكثيرون. فيبدو أن “هواء بعلبك” وعظمة تاريخها يفعل فعله محبةً وشغفاً لدى أكثر زائريها.

الأمن والمسؤوليات

رأى المطران رحال أن نقطة الإنطلاق لجذب المسيحيين وغيرهم تبدأ من ضبط الأمن موضحا أن الخطة الأمنية حسّنت الوضع وحدّت من بعض الحوادث كالإعتداءات والسرقات ولكنها غير كافية. وقال: ما زلنا في بعلبك نحتفل ونحزن بالرصاص في الهواء. وللأسف لم نتعاف من هذه التقاليد المؤذية التي تهرب السياح وأبناء المدينة معا، وإذ استغرب تراخي الوضع الأمني بعدما كان أكثر انضباطا، أثنى على الجهود الحثيثة التي يبذلها محافظ بعلبك-الهرمل بشير خضر لتحسين صورة المنطقة وهو الشاب النشيط والمحترم الذي يعمل من قلبه لمصلحة بعلبك رغم المعوقات الكبيرة التي تعترض سبيله.

الشيخ الرفاعي قال بدوره: بدأت الخطة الأمنية بشكل جيد ولكننا نشعر بارتخاء القبضة الأمنية مع بداية الموسم السياحي. فربما لا تتمكن القوى الأمنية من القبض على مطلقي النار أثناء الإحتفال أو التشييع، ولكنها تستطيع معرفتهم بالأسماء وتوقيفهم لاحقا، ورغم ذلك، نلاحظ أنها تتلكأ مؤخرا في إصدار بلاغات بحث وتحري بحقهم. وأكد في الوقت نفسه دعم المحافظ خضر الذي يسعى جاهدا لرعاية خطة أمنية جدية ولتسويق بعلبك عالميا ومحليا. وشدد المفتي الرفاعي على أن الدولة ملح الأرض، واذا لم تقبض على الأمن بيد من حديد فهي تعدم السياحة وكل ما عداها، مستطردا “لا أقصد الإستقواء على الضعفاء بل على من يستبيح نهار وليل بعلبك ممن لا يتعدى عددهم أصابع اليد”. وسأل: لم الدولة مقصرة وأين الخلل؟ لا أحد يجيبنا.

وعن دور المرجعيات الدينية في حض رعاياها على التزام القوانين، أضاف: جاهرنا في الفترة الأخيرة أننا لن نشارك أو نقدّم التعازي في أي مأتم يطلَق خلاله النار في الهواء وسننسحب إن كنا موجودين. لن نقبل بهذا الواقع بعد اليوم.

النهضة السياحية

رأى المطران رحال أنه يجب وضع برامج سياحية تجذب المسيحيين لزيارة بعلبك، ولكي يزورها المسيحيون، عليهم المكوث فيها ليلة على الأقل للإستراحة من مشقة الطريق وللتمكن من زيارة مجمل معالم المدينة الغنية ومعالم الهرمل وراس بعلبك ودير الأحمر وغيرها. وتابع: لذلك اقترحنا تجهيز ثلاثة مبان تابعة للمطرانية في الواجهة الأساسية لحارة المسيحيين التي تطل على هياكل بعلبك لتصبح بمثابة فندق محترم تحت رعاية المطرانية. ولكن الاقتراح يحتاج إلى تمويل ليبصر النور ونحن بانتظار المهتمين.

واعتبر المطران رحال أن التقصير الأكبر سياحيا وأمنيا يقع على عاتق نواب المنطقة. أضاف: لدينا عشرة نواب ووزيران يمكنهم هز البلد إن أرادوا. أين هم اليوم وماذا يفعلون لبعلبك. ورغم احترامي للجميع، لم نلمس أي معاملة مميزة من قبلهم إذ ما زلنا في حاجة للأساسيات من ماء وكهرباء وبنى تحتية وسياحة لتحريك العجلة الإقتصادية.

كما حمّل الدولة اللبنانية مسؤولية التخلي التام عن المنطقة مؤكدا أن بعلبك الهرمل هي قلب لبنان الحقيقي، ورغم ذلك لم تكن يوما على خارطة المشاريع الإنمائية والسياحية.

الشيخ الرفاعي رأى بدوره أن السياحة تمثل التحدي الأول لبعلبك، آسفا لغياب الخطط السياحية للبلدية. وقال: ننتظر الفترة الثانية لرئاسة البلدية، والتي ستبدأ خلال أيام، لنحكم على أدائها فإما أن تنجح في الإختبار السياحي أو تفشل.

أضاف: السياحة في حاجة لمبادرات وبرامج لا تقتصر على المهرجانات السنوية. وقد دعمنا مبادرات كثيرة كالحدث الذي نظمته المحافظة بمبادرة من المحافظ خضر عام 2016 عندما أضيئت قلعة بعلبك بصور السيدة فيروز في عيد ميلادها بحيث استقطبت المناسبة خمسة آلاف زائر. كما دعمنا “يوم الموسيقى” الذي نظمته المطرانية في ساحتها تعبيرا عن ثقافة المدينة…

تابع: يجب رفع الصوت وإعادة تدعيم الخطة الأمنية جنبا إلى جنب مع وضع خطة إعلامية واضحة للتسويق للمدينة تربط الأماكن السياحية ببعضها. فالتسويق غائب بدءا من المطار، ومعالم بعلبك لا تقتصر على الهياكل. ففيها حارة المسيحيين والمطرانية والكنائس والمساجد الأثرية وحجر الحبلى ومغر الطحين الروماني والمنتزهات والفنادق فضلا عن أن تزفيت الجرود بفضل الخطة الأمنية أتاح لزوار المدينة الوصول إلى أماكن الثلوج خلال عشر دقائق.

دور الإعلام

حمّل المطران رحال الإعلام جزءا كبيرا من المسؤولية لنشره صورة سيئة عن بعلبك معتبرا أنه اعتاد تغطية حوادث الجرود والمناطق الحدودية وكانها تحصل في قلب المدينة رغم البعد الجغرافي بين المواقع. ودعا الصحافة الى تغطية الأحداث الراقية والجميلة في بعلبك وإعطائها أيضا الحيز الذي تستحقه.

الشيخ الرفاعي لفت إلى أن الإعلام متحيز ضد بعلبك داعيا اياه إلى تسمية الأشياء بأسمائها. وسأل: أين الصحافة من النشاطات المهمة في المدينة كالمبادرات الفردية والثقافية، مناشدا تغليب مبدأ التوازن في تغطية الأحداث.

في الختام، تأكيد على متانة العلاقات وعلى الإنفتاح الذي طبع صورة بعلبك التاريخية. سيادة المطران جدد إعلانه أن “اليد باليد والقلب عالقلب” من أجل مصلحة المدينة، وهذا ما أكّده بدوره سماحة الشيخ قائلا: يشدنا التآخي، وكلمة المطران كلمتي.

Bekaa.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *