Bekaa.com

ترتبط جودة الإنتاج الزراعي عادة بخطط شاملة لا تقتصر على تحديث القوانين التي ترعى القطاع الزراعي بل تتخطى ذلك إلى التدريب والتوجيه وتعزيز ثقافة المزارع فضلا عن احترام المعايير البيئية. وفي لبنان، لم ترق برامج التطوير والجودة إلى الإهتمام المطلوب. وبالنتيجة بات المزارع قابعا بين مطرقة الإهمال المقصود وسندان الفقر والجهل، فيما غابت سلامة الغذاء عن الأولويات، وتبددت القدرة التنافسية للصادرات بسبب انعدام الكفاءة.

وفي هذا السياق، أكد رئيس جمعية المزارعين اللبنانيين أنطوان حويّك لـBekaa.com أن القطاع الزراعي ليس مهملا فحسب بل إن حكماً بالاعدام قد نُفذ بحقه بوعي كامل وبخطة ممنهجة لحساب قطاعات أخرى. وساهم ذلك في نزوح المزارعين وبيعهم أراضيهم بأسعار بخسة. فتحولت الأراضي الزراعية إلى مساحات للبناء العشوائي. وبدل أن تصنف من الموارد الثمينة الداعمة للإقتصاد وميزان المدفوعات، كما للمزارع والمستهلك من خلال تعزيز برامج الجودة والإنتاجية، تحولت إلى مشاعات للربح السريع وتدمير البيئة.

ورأى حويّك أن آلية تطوير القطاع لدعم السلامة والجودة يجب أن تنطلق من إنشاء السجل الزراعي والغرف الزراعية المستقلة. وكان ذلك موضوع إقتراح قانون تقدّم به الإتحاد برئاسة حويك عام 2003 وتبناه عدد من النواب، ولكنه رُفض وقتها نتيجة ضغوطات مارستها الهيئات الإقتصادية وبعض القوى السياسية، حتى أن فكرة إنشاء مصرف للإنماء الزراعي لم تجد نصيرا لها ولم تبصر النور أيضا.

رئيس جمعية الزراعيين أنطوان حويّك

تُعتبر غرف الزراعة المستقلة المسؤولة عن السجل الزراعي مؤسسةً ذاتَ نفع عام. فهي “تفرض” قراراتها على الحكومات بالتعاون مع وزارة الزراعة، وتساهم في تحديد السياسات الزراعية بحسب المساحات وطبيعة التربة وحاجة السوق. ومن الطبيعي أن تضم أوسع قاعدة من المزارعين الذين يديرون سياساتها ويستفيدون منها، وأن تضع برامج الإرشاد الزراعي وكيفية تنوّع المنتجات الزراعية والحيوانية، وأن تنظّم روزنامة زراعية سليمة وتحدّد كوتا للمزروعات بهدف تصريف الإنتاج والحفاظ على إستقرار الأسعار وتوزيع الأرباح على المزارعين وخدمة المستهلك في آن. وعلى سبيل المثال تستطيع أن تفرض زراعة البطاطا أو البصل كل ثلاث سنوات وليس سنويا لتفادي تكدّس الإنتاج وإنهيار الأسعار. خلال السنوات الثلاث يزرع القمح مثلا كبديل.

ومن مهمة الغرف الزراعية المستقلة أيضا، دفع المزارعين إلى تسجيل معطياتهم في السجل الزراعي كي تستند إليها في ترشيد استخدام الأراضي.

ما يحصل حاليا، أنه بغياب هذه الغرف والمعطيات الحقيقية للأراضي الزراعية، يقتصر الأمر على بعض النصائح التي تسديها وزارة الزراعة عبر اقتراح روزنامة وبعض الارشادات عن ضرورة تنوع المنتجات الزراعية والحيوانية، فيما يغيب الإرشاد الشامل لتطوير الإنتاج، ويُترك للمزارع حرية التصرّف. وهو قد يختار من دون دراسة علمية، الزراعات المتدنية الكلفة أو التي تأتي بمردود عالٍ برأيه. وغالبا ما تسود في السوق الزراعي بسبب سوء التقدير. وعندما يغرق السوق ببعض الأصناف الزراعية تهبط أسعارها، فتتوقف زراعتها في الموسم اللاحق، وعندها ترتفع أسعارها مجددا إنما بشكل تضخمي. وبالعادة يلجأ المزارع في المقابل الى زراعة أصناف كانت قد حقّقت أرباحا جيدة في المواسم السابقة، فتنهار أسعارها تلقائيا نتيجة تفوّق العرض على الطلب.

وتتوسع دائرة الفوضى في ظل التهريب المتمادي للمنتجات الزراعية عبر الحدود السورية. فتصريف المنتجات هو الأساس لدعم المزارع وتشجيعه على تطوير الإنتاج. وفيما وضعت الوزارة في الأيام الماضية برنامجا واضحا للمنتجات الزراعية المسموح باستيرادها بموجب إجازات لحماية الإنتاج المحلي، دعا حويّك إلى تقديم “روزنامة زراعية شاملة جديدة” إلى الدول العربية لضبط الإستيراد الذي ترعاه القوانين الجمركية والاتفاقات بين الدول كإتفاقية التيسير العربية لحماية الإنتاج الوطني في المواسم المهمة.

معايير الجودة والسلامة

هناك معايير مترابطة لتطوير الإنتاج الزراعي برأي الخبير الزراعي الدكتور بيتر مبارك تبدأ بإرشادات وزارة الزراعة والتعاونيات الزراعية ولكنها ترتكز أيضا على حرص المزارع على تطوير نفسه وإنتاجه. على المزارع حضور التدريبات وورش العمل التي تنظمها وزارة الزراعة أو الجمعيات والمؤسسات المختصة والتي غالبا ما يتغيب عنها ويعتبرها مضيعة للوقت! ومن هنا، دعا مبارك المزارعين الى قراءة المنشورات عن سلامة وجودة المزروعات ومتابعة كل جديد على صعيد الأساليب والتقنيات لتطوير الإنتاج في ظل انتشار الإنترنت وتوفر المعلومات مجانا. وقال: ليس كل التقصير حكوميا وإذا قصرت الحكومات يبقى للمزارع هامش لمساعدة نفسه بنفسه. فالمزارع الأوروبي على سبيل المثال لا يعتمد على حكومته أو على إرشادات التعاونيات الزراعية فحسب انما يلاحق التقنيات الحديثة في الزراعة ويشتري المعدات الحديثة عبر الشراكة مع مزارعين آخرين إن لم يكن بمقدوره شراؤها بنفسه، ويتهافت على حضور التدريبات وورش العمل الزراعية.

أضاف: طبعا يجب أن تلعب وزارة الزراعة ومهندسوها الدور الرئيسي في توجيه المزارع عبر تدريبه على الطرق الحديثة في إدارة حيازاته، وفي تمويل مشاريعه، وفي تنويع مزروعاته، لتأتي متأقلمة مع التوجهات الموسمية حول ظروف الطلب المتبدلة، وخصوصا المزارع الفقير غير القادر على الإستعانة بمهندسين خاصّين. ويشمل التدريب أساليب الزراعة الحديثة وتوقيت الزرع والأراضي الصالحة والكميات اللازمة بحسب حاجة المستهلك. وتساهم الأبحاث الدورية في تأمين المعلومات العلمية والدقيقة لترشيد المزارع. وفي هذا السياق، أثنى مبارك على جهود مصلحة الأبحاث الزراعية التابعة لوزارة الزراعة ولعبها دورا مميزا على صعيد الأبحاث والمختبرات التي باتت تنافس نظيراتها في الدول الأوروبية.

وللجمعيات الزراعية أيضا دور هام في توجيه المزارع عبر ورش العمل التدريبية التي تنظمها دوريا. وهناك أيضا شركات الهندسة الزراعية الخاصة التي تساعد المزارع بطريقة غير مباشرة من خلال المصلحة المتبادلة حيث يجول مهندسوها على المزارعين لبيعهم الأدوية والأسمدة اللازمة لتطوير إنتاجهم وجودته.

وفي هذا السياق، أشار مبارك الى ضرورة استعمال الأسمدة العضوية والكيميائية لتخصيب المزروعات فضلا عن المبيدات الحشرية مشددا في الوقت نفسه على وجوب الاحتكام الى الإرشادات الحرفية المدونة على المبيدات، حفاظا على جودة المزروعات من جهة وعلى النظافة البيئية منعا لانتقال اي ترسبات كيميائية الى أجسادنا. فهناك مبيدات يتطلب تفكيكها وقتا طويلا وقسم كبير منها قادر على اختراق التربة والوصول الى المياه الجوفية وتلويث مياه الري والشفا مما يؤثر بطبيعة الحال على القطاع الحيواني أيضا. وكي نتفادى التلوث الناتج عن القطاع الزراعي والذي يأتي بالدرجة الأولى من سوء استعمال المبيدات والأسمدة يجب على المزارع الالتزام بالإرشادات المدونة وعدم الاكتفاء بتعليمات التاجر الذي باعه الأدوية، والأهم الأخذ بالاعتبار موعد القطاف بعد العلاجات بالمبيدات. فلكل مادة فعالة فترة سماح وأمان وجرعة مسموحة. كما أن هناك أدوية يجوز استعمالها في أولى مراحل نمو النباتات وأخرى في فترة ما قبل القطاف.

ودعا الوزارات المختصة الى تشديد الرقابة على التجار لناحية الكميات المباعة من المبيدات والأسمدة وتاريخ الصلاحية والتقيّد بالحد الأدنى من الشروط الصحية المتعارف عليها دولياً. وطالب بوضع قائمة للأدوية الزراعية ومنع بيع أي دواء من دون توقيع المهندس المختص.

ولتطوير الإنتاج، تلعب طرق التربية الزراعية دورها في مرحلتي تقليم الأشجار والقطاف. فالمزارع يقطف محصوله أحيانا قبل مرحلة البلوغ بهدف بيعه بأسعار مرتفعة مما يؤثر سلبا على النوعية. وشدد مبارك على توقيت الزرع: كلُّ صنف في موسمه من أجل نوعية أفضل. فالبندورة مثلا في الصيف شكلها ورائحتها وطعمها أفضل من أي محصول في الخيم البلاستيكية شتاء. كما يجب اتباع التقنيات الحديثة في التوضيب والتخزين والنقل للحفاظ على نوعية المنتج، فضلا عن اعتماد طرق الري المتطورة التي تسمح بترشيد المياه.

وأخيرا أشار مبارك إلى أن الإنتاجية مرتبطة بتوسيع الأراضي المروية وإختيار الأنواع الوراثية الملائمة للمزروعات داعيا المزارعين في هذا السياق إلى التوقف عن بيع أراضهيم وتحويلها الى غابة من الإسمنت بدل الحفاظ على مساحات الأراضي الخضراء الصالحة للزراعة والتي بلغت عام 2005 328000 هكتار بحسب منظمة FAO في وقت تقع 42% تقريبا من هذه الأراضي في البقاع وتقريبا تسعون في المئة منها مزروعة.

إذاً لتحسين الإنتاج الزراعي هناك علاقة تكاملية يجب أن تتوطد. طرفاها الدولة التي يجب أن تحمي المزارع ليس فقط بإرشادات موسمية عامة وإنما بتخطيط مستمر وبتثقيف حقيقي مباشر وبتشجيع الجمعيات المختصة على تقديم العون الدائم في هذا الشأن وتسهيل مهمتها والأهم بتمرير إقتراح قانون إنشاء الغرف الزراعية المستقلة التي تضع خططا وروزنامات تكاملية وليست تنافسية وتسمح بتبادل الخبرات وتشارُك الموارد لتقليص الأكلاف وتوزيع الأرباح. الطرف الثاني في المعادلة المزارعون أنفسهم عبر التكتل ضمن الغرف الزراعية العتيدة بالتزامن مع الجهد الفردي لتطوير الذات وتحديث أساليب الزراعة ضمن معايير تنوع وسلامة المنتجات وحماية البيئة.

غنيٌّ عن القول أن كل ذلك لن يتحقق إذا استمرّ إهمال الريف بشكل عام وإذا ما اقتصرت تنميته على مشاريع خجولة متفرقة لن تغني صاحب الأرض ولن تحمي المزارع من جوع!

Bekaa.com-فكتوريا موسى


Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *