عايدة الجوهري – موقع النهار – في الأسابيع الأولى للثورة، كان يُواجَه كل من يتحدث عن ضرورة التنسيق والتنظيم وتوحيد الخطاب، بالقول إنّ عبقرية الثورة تكمن في عفويتها، واندفاعتها غير المحسوبة، أي من صدقها المطلق، وإنّ الناس يقودها غضبها وآلامها المكتملة، وتحفّز حميتها وحماسها عبثية الواقع وعربدته.
وإذا جادلتَ بأنّ الإشكاليات التي تطرحها كيفيات إدارة الصراع مع السلطة، ومواجهة الاستحقاقات والتحديات التي يمليها الصراع معها، تحتاج إلى ثقافة سياسية وخبرة نضالية وقرارات جماعية حكيمة، أجابوك بأنّ الناس تأتمر بحسّها السليم وسليقتها، وأنّ منطق الأشياء والأحداث يضبط أفعالها، وردود أفعالها، وأنّ خطابها العفوي معبّر؛ وإذا سألتَ عن برنامج الثورة التغييري، فضّلوا التريُّث.
حسنًا، تصحّ هذه الافتراضات في جميع الثورات الشعبية وبداياتها، والدليل على ذلك، تفاعُل الناس العفوي المدهش مع مطلب استقالة الحكومة، ومع ما تلاه من أحداث، تنمّ عن رغبة السلطة في احتواء الثورة وكبحها، من مثل الورقة الإصلاحية الركيكة، أو انفلات الميليشيات الميداني، أو اقتراح أسماء منتهية الصلاحية لرئاسة الحكومة، أو، أو… ولكنّ الصراع مع قوى هذه السلطة شرس وطويل، ومعقّد، وهي لن تتخلّى عن مكسب واحد من مكاسبها الطائلة، بسهولة، وإلا تحت الضغط المبرمج الدائم، وهي تسارع إلى التقاط أنفاسها، واستعمال كل وسائل الثورة المضادة أمام كل ظاهرة هدوء أو ترقُّب، وإعادة تموضع، وهذا ما نلحظه ببساطة في محاولتها الالتفاف على مطلب حكومة اختصاصيين مستقلين، وإحيائها لآلية التحاصُص الحزبي التي تعيد عقارب الساعة إلى ما قبل 17 تشرين الأول.
إنّ هذه الأحداث، وما واكبها وما سيليها، تدلّ على أنّ المعركة مع هذه السلطة لم تبدأ بعد، وأنّ هذه السلطة متجذّرة ومتغطرسة، لدرجة أنّ تحييدها الموقّت، وبفترة انتقالية، بغية إنقاذ البلاد من الكارثة الاقتصادية المالية، والشروع في مكافحة الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة، والإعداد لانتخابات نيابية مبكرة، ليس بالأمر الهيّن، فما بالك لو كان المطلب الاستراتيجي هو التأسيس لنظام حكم جديد، ولدولة مدنية؟!
قبل معالجة إشكالية «العفوية» الملازمة لبدايات معظم الثورات الشعبية في العالم، والتطرُّق إلى الأسئلة التي تطرحها، لنناقش أولاً مشروعية استعمال مصطلح «ثورة» عوضًا عن «انتفاضة»، أو «حراك».
يغلب عمومًا استعمال مصطلح «ثورة» في خطاب الغاضبين اللبنانيين، على سائر المصطلحات المستخدمة، غير أنّه لا يكفي أن يختار أحدهم الاسم الذي يناسبه لوصف ما يقوم به، كي يصيب وتصحّ التسمية، فالثورة تقاس بمجموع الأهداف التي يرسمها ويخطّها الثوار لأنفسهم، وبالاستراتيجيات التي يضعونها لبلوغ هذه الأهداف.
الثورة هي في الفهم المعاصر:
«التغيير الكامل للسلطات الحكومية في النظام السابق على الثورة بغية تحقيق نظام سياسي نزيه وعادل ويوفّر الحقوق الكاملة والحرية والنهضة للمجتمع».
هي، بكلمات أخرى، «استبدال النظام السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي القائم بآخر أكثر ديمقراطية وحداثة وعدالة».
وكان أرسطو جذريًا، فاختزل الثورة بتغيير الدستور أو تعديله، فتحدّث عن شكلين من الثورات في سياقات سياسية:
1- التغيير الكامل من دستور لآخر.
2- التعديل على دستور موجود.
تنطبق هذه التعريفات المتجانسة على طموح شريحة واسعة من الناشطين السياسيين، التي تعرف تمام المعرفة أنّ ما يصيب اللبنانيين من ويلات، إنّما هو محصّلة نظام طائفي تحاصصي زبائني، ينتهك أهله القوانين على مدار الثواني، غير آبهين بآليات المحاسبة والمراقبة، ولا بأوجاع الناس، ومصائرها، ولا بمصير البلد برمّته، وأن لا بد من تغيير قواعد اللعبة، وإعادة تكوين السلطة على أسس مختلفة، تضمن وصول أشخاص يحملون مشروعًا مدنيًا لا طائفيًا، لإنقاذ البلاد من مأزقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والانتقال بها إلى عصر الدولة المدنية بكل مندرجاتها، ولا غرو أن تهتف هذه الشريحة «الشعب يريد إسقاط النظام».
حتى أولئك الذين لا يطمحون إلى إسقاط النظام، إسقاطًا بنيويًا، ويكتفون بالمطالبة بإلحاح وإصرار، باستعادة الأموال المنهوبة، وبوضع أسس راسخة لمكافحة الفساد، تقوم في جوهرها على استقلال القضاء استقلالاً كليًا، وعلى معالجة الأزمة النقدية المالية على حساب الأثرياء والمتموّلين، وعلى سن نظام ضريبي عادل، وإرساء نظام اقتصادي بديل عن النظام الحالي، وانتخابات نيابية مبكرة تقوم على قواعد ديمقراطية، حتى هؤلاء سوف يتسبّبون، إن تحققت مطالبهم، باهتزاز النظام الذي لا ينادون أو يخطّطون لإسقاطه.
هي إذاً، بداوفعها، وبشعاراتها المعلنة، أو مطالبها الجذرية، «ثورة»، وهي بنظري ثورة مرة جديدة، قياسًا للغضب الذي يعتمل في نفوس الناشطين على مختلف صفوفهم، وقياسًا أيضًا لطموحات التغيير التي تضجّ بها عقولهم.
إلا أنّ تحويل غضب اللبنانيين وطموحاتهم إلى «ثورة» جديرة بتحقيق الأهداف المأمولة، يُرتّب على الثوار مسؤوليات جسيمة، وبما أنّ الثوار اللبنانيين أمام اختبار تاريخي جديد، وفريد، عليهم لشقّ طريقهم الثوري بثبات، الاتعاظ من تاريخ الثورات، الناجحة والفاشلة، سواء بسواء، طرحتُ هذا السؤال على نفسي وألقيت نظرة على استنتاجات المؤرّخين حول شروط نجاح الثورات في التاريخ الحديث، في العالم، سألخّصها على الشكل التالي:
- الإقلاع عن المراهنة على عوامل العفوية والتلقائية، والارتجال، التي واكبت البدايات.
- تشكيل قيادة ثورية متجانسة موحّدة، والوحدة لا تعني الأحادية ولا التلاحم العضوي، بل التشارك والاتفاق والتنسيق والتكامل، لتفادي تشرذُم مكونات الثورة، وتشتُّتها، لأنّ ذلك يُحرّض على استضعافها والانقضاض عليها.
- التوافُق الفكري المفاهيمي بين مكونات الثورة، لأنّ التوافق الفكري يُنتج أهدافًا موحدة.
- امتلاك رؤية سياسية، اقتصادية واجتماعية، مغايرة لرؤية النظام القائم.
- تحصين الثورة ببرنامج واحد، يشتمل على أهداف بعيدة وأخرى وسيطة وقريبة، لأنّ تشتُّت الأهداف، وغموضها، يشجّع الحكم القائم على الثورة المضادة، كما قد يؤدي إلى فتور همّة أنصار الثورة.
- تعزيز الوعي الثوري لدى الثوار لأنّ نجاح الثورة مرتبط بنهوض وعي جماعي ثوري، ودوافع الناس في حاجة إلى تأطير وإشباع في برنامج وأهداف سياسية ثورية.
- عدم التسرُّع في تخوين الثوار بعضهم بعضًا، لأنّ ذلك يسيء لصورة الثورة ويجعلها عرضةً لسهام الخصوم.
- توحيد شعارات الحراكات والأنشطة الثورية الميدانية، المركزية واللامركزية، التي تجري في زمن واحد، وعدم تشتيتها.
- التعويل على أعداد المشاركين في الحراكات المركزية أو اللامركزية، فالثورة تستمد قوتها من حشد أكبر عدد من المشاركين من قطاعات عريضة من السكان، ومن القدرة على تعطيل المرافق العمومية، وإصابة الحياة الاجتماعية بالشلل، لأنّ في ذلك إحراجًا للقوى الأمنية، لأنّ الحشد يُشعر القوى الأمنية بأنّ الأمور خرجت عن سيطرتها، عدا عن أنّ ذلك يدلّ على أنّ شرائح واسعة من الشعب تُؤيّد أهدافها، وتنسحب هذه القاعدة على ميليشيات الأحزاب المعادية للثورة.
هذه أبرز شروط نجاح الثورات، وكلُّها توحي بالتنظيم والتخطيط، والبرمجة الاستراتيجية، وتتناقض مع «نظرية العفوية»، وهذه الشروط تُحفّز الثوار على مقاومة نزعات التغطرس، و«التمركز حول الذات»، والتفرُّد، والأحادية، والكفّ عن التموين المجاني، والانفتاح على كافة قوى الثورة، والاستثمار في المشتركات الجوهرية.
هل، بالمقابل، من نظرية متكاملة، مدعومة بالأدلة، حول فاعلية العفوية؟
المصدر: موقع النهار
الخميس 23 كانون الثاني 2020