فكتوريا موسى – Bekaa.com –

اللقاء مع شوقي دلال محفوفٌ بالمخاطر! فور استقباله لك يدورُ بكَ في عشرات الأمكنة، وعشرات الأفكار، فتبدأ باللهاث وأنت تحاول اللحاق به وهو محلّقٌ في فضاءٍ يصرُّ على أنه أرضيّ! هكذا يرى النشاط الثقافي. أرضيٌّ ومسطّحٌ وغيرُ مُتعالٍ، وإلا فقدَ وظيفته.

فالثقافة، بالنسبة إليه، نشاطٌ إنساني صرْف، بلا تكلّف ولا ادعاء. تَعُبُّ منها لدى فيلسوفٍ أو شاعر أو عالمٍ أو من كتابٍ أو لوحةٍ أو من فلاحٍ اختزنَت سنواته حكمة عُمْر. ولأن “الشيء بالشيء يُذكر”، لا ينبغي أن تكون الثقافة، بحسب دلال، في برجٍ ذهبي ومنزلة لا يطالها كلّ الناس.

من هنا كانت مبادراته العديدة والمتكرّرة والمثابرة لـ”دمقرطة” الثقافة، وجعلها في متناول الجميع.

هو فنان تشكيليّ، حائزٌ على دبلوم في الفنون من معهد الفنون الجميلة 1982 وعلى دكتوراه فخرية من كندا على إسهاماته في أبحاث الفن وترويجه، أستاذ مادة الرسم والفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. حائزٌ على جائزة الشاعر الكبير سعيد عقل للإبداع للعام 2000 عن لوحته التشكيلية بعنوان “سمفونية الأصفر”، وعلى عدد كبير من الجوائز وشهادات التقدير والدروع والأوسمة، من لبنان وخارجه، إعجاباً برسوماته وعرفاناً وتقديراً لنشاطاته وإسهاماته في خدمة الفن والثقافة والمجتمع.

أسّس “جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون” في بلدته راشيا، مدينة الاستقلال، عام 1992، ومنذ ذلك الوقت وهو “مندورٌ” للترويج للإنتاجات الثقافية في المدن والقرى والبلدات اللبنانية، وخاصة في راشيا الوادي التي نجح، بجهدٍ شخصيّ أغلب الأحيان وعبر المحترف، بوضعها على الخارطة الثقافية على امتداد الوطن. فاستقطب إليها الكتّاب والمفكرين والشعراء والفنانين المحترفين ورجال دين متنوّرين من كل لبنان، ليحاضروا ويعرضوا ويستعرضوا في ربوعها وعلى منابرها.

ولعب المحترف دوراً هاماً في دعم ومساعدة المثقفين والفنانين الشباب والهواة فشكّل منبراً لهم وأحياناً دار نشر، ووفّر معرضاً مجانيّا لأعمالهم.

وبغية لمّ الشمل الثقافي وربط النشاطات بين مختلف المدن والبلدات اللبنانية، شارك دلال في تأسيس “تجمع البيوتات الثقافية في لبنان” مع البروفسور جورج طربيه، وهو اليوم أمينه العام، الذي لا يهدأ ولا يكلّ في تطوير شبكة علاقات ثقافية تضمّ معظم العاملين والمهتمين بالشأن الثقافي وفي كافة المستويات، بعيداً عن النخبوية والنرجسية. كأنه بذلك يعوّضُ بُعد المنطقة و”عزلتها” الجغرافية خلف الإهمال المزمن والنسيان، بعناقٍ حارٍ لثقافة العاصمة والمدن البعيدة. يضم التجمّع اليوم سبعة وخمسين جمعية وصالونا أدبيا وثقافيا.

في خضّم كل ذلك، يطلّ شوقي دلال علينا، من حين إلى حين، بمعارض لرسوماته المائية المبدعة بألوانها المستمَّدة من فضاء وطبيعة راشيا الوادي الرائعة وجبل حرمون المهيب. وآخر إصداراته كتاب “الشيء بالشيء يُذكر” وهو كتاب يضمُّ الى رسوماته خواطر ممتعة ببساطتها وفلسفتها في آن.

“بلدتي ثقافتي”

تركز جمعية محترف راشيا نشاطها هذه الأيام على مشروع “بلدتي ثقافتي” الذي يهدف الى تنشيط العمل الثقافي في مختلف البلدات والقرى اللبنانية. ويقول دلال: “لهذا الهدف يجري الاتصال بالبلديات والجمعيات الثقافية والاجتماعية في البلدات والقرى لتأطير نشاطات المثقفين والكتّاب والفنانين والحرفيين فيها وتنظيمها برعاية وزارة الثقافة وتحت مظلة “بلدتي ثقافتي”.

ويتابع: “هذا الإطار التنظيمي يخلق روحاً تنافسية مفيدة بين البلدات، ما يشجع على إنتاج المزيد من الأعمال، خاصة وأن المحترف قد نال موافقة ودعم وزارة الثقافة المبدئي على “مكافأة” كل بلدة من هذه البلدات بتنظيم يومٍ كامل لها في قصر الأونيسكو في بيروت لتعرض فيه نشاطاتها وأعمال حرفييها وفنانيها ومثقفيها..”

وآخر العام يصدر كتاب شامل يتضمن نشاطات كافة البلدات المشاركة، وتكرّم البلدات باحتفال كبير يقام في قصر الأونيسكو برعاية الوزارة.”

الفنان دلال يستعرض آخر أعماله رسم مائي لأحد أحياء الأشرفية التراثية

يوم التجليّ على جبل حرمون

إضافة إلى “بلدتي ثقافتي” يواصل محترف راشيا برنامجه للسياحة الداخلية والدينية، وبدأ التحضيرات لرحلة “التجلي الى جبل حرمون” لهذا العام. وهو نشاط سنوي، يستقطب عدداً كبيراً من المشاركين، أطلقته الجمعية للمرة الأولى عام 1994 برعاية الرئيس الراحل الياس الهراوي، وتنظّمه في 6 آب من كل عام بالتعاون مع بلدية راشيا، للمشي على درب السيد المسيح في مسيرة يتوّجها قدّاس على رأس الجبل.

ولفت دلال الى أنه خلال رحلة العام الماضي استقطبت الجمعية، بالتعاون مع الأب مارون عطالله، وفدا أوروبيا للتعرّف إلى الجبل وراشيا تحت عنوان “تعرّف تحب” مما ساهم في نشر الحدث دولياً إذ نشره موقع الفاتيكان الإلكتروني. كما جرت مراسم عمادة طفل على رأس جبل حرمون، ما أضفى على المناسبة أجواء إجتماعية لطيفة لا تخلو من الطرافة.

وذكّر دلال بمشروع آخر للجمعية على جبل حرمون نُظّم لسنوات بالتعاون مع الأب المخلصي عبدو رعد والأب عطالله بعنوان “ما بين جبل التجلي ووادي قنوبين” حيث نظمّت رحلات “حج” باتجاه المنطقتين المقدّستين.

ورأى دلال أن برنامج حرمون للسياحة الدينية انطلق بسبب أهمية الجبل الدينية، وقد ذُكر في جميع الكتب المقدسة، ما أعطاه، الى جانب جماله الطبيعي الخلاب وموقعه الرائع، رمزية خاصة منذ نشأة الأديان، تصلح لأن تكرسّه مهداً طبيعياً لحوار الأديان.

وأوضح أن اسم “حرمون” كنعاني ومعناه في العربية “حرم” أو “مقدّس، وكان أقدس الجبال، التي عبدها الكنعانيون القدماء.

وتحدثت ملحمة جلجامش عن نبتة الخلود التي وجدت على سفوح الجبل. ويعتقد أنها عَنَت بذلك نبتة “شرش الزلوع” التي تعيش فقط في هذا الجبل. وقد درج تعريف حرمون على ألسنة الكثيرين من كتّاب التاريخ الديني بأنه جبل الرؤى”.

وشرح دلال أنه كانت لحرمون أهمية خاصة لدى الرومان أيضا، الذين رمّموا أكثر من عشرين معبدا على طول الخط المحاذي للجبل من الهرمل وبعلبك شمالا حتى بلدة الهبارية جنوباً.

الصورة من Lebanon in a picture

كما يوجد في الجبل مغارة سيدنا آدم ويقال إنها أقدم معلم لآدم عبر التاريخ. فضلا عن الاعتقاد بأن تجلّي السيد المسيح تمّ على سفحه، عندما أتى بثلاثة من تلاميذه المقرّبين بُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا إلى هذا المكان (جبل عالي)، فعندما شعَّ نوره على قمة الجبل تيقن أتباعه أنه ابن الله. ولذلك اتخذ اسم بلدة بكيفا المجاورة بُعدا مسيحيا خالصا ومعناه “بيت الصخرة” أو “بيت بطرس” نسبة لتلك الحادثة، حيث تم تكريس إيمان القديس بطرس الرسول.

وطبقًا للثقافة الإسلامية، فإن هذا الموقع هو المكان الذي شهد حدثًا ذكره القرآن الكريم وهو أمر الله لإبراهيم بأن يذبح أربعة أنواع مختلفة من الطيور ويقطعهن، ثم بعد ذلك بعثها الله إلى الحياة مجددًا. ويطلق عليه بناء على ذلك “مشهد الطير الإبراهيمي” أو “المكان المقدس لقصة إبراهيم مع الطير”. ولا ننسى أنه من هذا المكان أيضاً انطلقت دعوة الموحدين الدروز.

على خط السياحة الشتوية، لحرمون نصيبه أيضا من نشاطات الجمعية، خصوصا أنه يتميز بأجود أنواع الثلج لممارسة رياضة التزلج، وقد نظّمت الجمعية محاضرة عن جبل حرمون مع المتسلّق اللبناني ماكسيم شعيا وذكر حينها إن تسلق حرمون يوازي تسلق قمة افرست متعة وصعوبة.

السوق التراثي والكونسرفتوار

يعتزّ دلال أنه وبناء على مشروع تقدّمت به الجمعية عام 1997 الى وزارة السياحة تمّت إعادة ترميم سوق راشيا، وهو اليوم واحدٌ من أجمل الأسواق التراثية في لبنان. ويحرص المحترف على إحيائه بنشاطات ومعارض متنوعة.

ومؤخرا زار دلال وزير الثقافة محمد داود واستطاع أن ينتزع منه وعداً بدعم إنشاء فرع للكونسرفتوار الوطني في مدينة الاستقلال. عن هذا الموضوع يقول: “نفكر مع البلدية في اعتماد أحد البيوت التراثية كمقرّ له، أريد للكونسرفتوار أن يكون في جو تراثي متواضع يشبه بساطة وجمال وهدوء هذه المدينة”.

ويضيف دلال: “كما أطمح وأسعى لإقامة متحف دائم للفنون التشكيلية في راشيا داخل القلعة”.

وعن دعم المجلس البلدي لهذه المشاريع، يتابع: “البلدية تساعد ضمن امكاناتها ومعرفتها. وكلنا نعلم الواقع المالي للبلديات الذي يعوق حركتها ويكبل أياديها ولكنها، والحق يقال، حاضرة لدعمنا معنويا وكثيراً ما تسهّل العمل بإعطائنا موافقات سريعة على المشاريع وتؤمن لها الانارة والتنظيفات وخطط السير. فالعلاقة جيدة مع بلدية راشيا ومع معظم بلديات لبنان”.

مسابقات

وهناك المسابقة السنوية للرسم في مدارس وثانويات لبنان وسلسلة المحاضرات والندوات الفكرية والثقافية، فضلا عن طباعة الكتب لكتّاب أو شعراء ليس باستطاعتهم تحمّل كلفة الطباعة والنشر. وقد ساهمت “الدار التقدمية” بتشجيعٍ مباشر من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بدعم ذلك. وكذلك الأمر بالنسبة لمتبرع كويتي يساهم في تشجيع الكتّاب والمثقفين عبر طباعة مؤلفاتهم وكتبهم.

واستطاع دلال، بحركته ونشاطه الدائمين، مدّ نشاطات المحترف الى الدول العربية والأجنبية. حيث نظّم مسابقات رسم ونثر، بالتعاون مع وزارة التربية، تحت عنوان “لبنان يفرح بالكويت”، في نشاط جمع طلاب من مدارس لبنانية عديدة قدموا رسومات شكر وعرفان لدولة الكويت لدعمها خمسا وعشرين مستشفى في لبنان من ضمنها مستشفى راشيا. ونظّم مسابقة رسم لأطفال في مخيمات النازحين السوريين رسموا السلام والمعاناة والأمل بالمستقبل، بدعم من وزارة الإعلام في دولة الكويت، ومسابقة أخرى عن “الصداقة اللبنانية الكندية بالقلم والريشة” بالتعاون مع وزارة الثقافة ومنظمة الأونيسكو والسفارة الكندية.

يوم الدبس “روّق براشيا”

استطاع شوقي دلال والمحترف رفعَ اسم راشيا الى الواجهة مجددا. واستضاف في قاعة الكواسبة وفي قلعة راشيا التاريخية، ضمن ندوات ومعارض ومحاضرات بدأها منذ 1992 من دون توقف إلى اليوم، أهم الشخصيات الفكرية والثقافية اللبنانية والعربية، نذكر منها: الصحافي الراحل غسان تويني والشهيد جبران تويني، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، سماحة السيد محمد حسين فضل الله، المطران جورج خضر، العلامة السيد محمد حسن الأمين، المطران غريغوار حداد، الموسيقار الراحل وليد غلمية والفنان الراحل وديع الصافي وعدد كبير من الشعراء والوزراء والسفراء والإعلاميين. فضلا دعم المحترف أي نشاط تحت عنوان تنمية راشيا كالمهرجانات المشتركة مع البلدات المجاورة والمهرجانات السنوية التي تجمع فناني لبنان ورسّاميه ونحاتيه لعرض أعمالهم في قلعة راشيا، فضلا عن “يوم دبس العنب” ويوم “روّق براشيا”، حيث تعرض كل المنتجات القروية في السوق الأثري.

ولا ينتهي المشوار هنا، فدائما لدى شوقي دلال أفكارٌ ومشاريع جاهزة للتنفيذ وأخرى قيد الدرس. وهو حاضرٌ لنقاش ودراسة أي مشروع ثقافي أو بيئي أو تربوي يُعرض عليه ويخدم “القضية”. وكأنه حارسُ الثقافة، بما تعنيه من نشاط إنساني واسع، في منطقة منكوبة ومُهملة على مختلف الصعد.

الثلاثاء 9 تموز 2019 خاص BEKAA.COM

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *