خاص-Bekaa.com –
لزيارة راشيا الوادي والتعرّف على معالمها ليس أمتع من رفقة إبن البلدة النشيط والمتطوّع دائما لإبراز حضورها التاريخي والاجتماعي والسياحي، ومحرّك الأحداث الثقافية فيها وفي المحيط، رئيس محترف راشيا شوقي دلال.
منذ وصولك الى البلدة تأخذك طبيعتها الوادعة وبيئتها النظيفة وشوارعها وأحياؤها التراثية الأنيقة وترتيبها العمراني حيث القرميد الأحمر والحجر التراثي ما زال صامداً متحدياً عوامل الزمن من دون تدخل بشري.
قلعة راشيا
اقترح صديقنا أن نبدأ جولتنا في البلدة بالمعلم الأشهر والأقدم “قلعة الاستقلال”. استقبلتنا الدليل السياحي سلوى ناجي، حافظة القلعة وتاريخها، وطافت بنا برحلة ممتعة عبر التاريخ القريب والبعيد في شرح لم يوفّر تقنيات بناء القلعة.
قد يعرف كثيرون قلعة راشيا، بـ”الحَبس” الذي “استضاف” قادة الاستقلال اللبناني أحد عشر يوماً في تشرين الثاني 1943. ولكن كثرٌ لا يعلمون أن تاريخها يعود الى قرون سابقة. فقبل أن تكون قلعة صليبية وحصناً مشرفاً لمراقبة القوافل العابرة منذ سنة 1099، كان اختارها الرومان، قروناً عديدة قبل ذلك، معلماً من المعالم الممتدة في طول سهل البقاع من الهرمل شمالا وصولا الى القدس. وما زالت بعض الآثار الرومانية والدهاليز مطمورة وتؤدي الى خارج القلعة وتشهد على تاريخها السحيق.
وتشرح لنا الدليل سلوى ناجي كيف بنى الرومان هذه الممرات السرية والسراديب تحت الأرض. وأحد هذه الدهاليز يبدأ من داخل “إسطبل القلعة”، وما زالت عليه شعارات رومانية، يمتد لمسافة 1500م ويصل إلى عين مري قرب مثلث العقبة – بكيفا، وكان يستعمل لحركة المقاتلين وتأمين التموين أثناء حالات الحصار.
وتتابع ناجي: أعاد الصليبيون بناءها وأضافوا اليها أقبية لتخزين السلاح والمؤن، وأبراج مراقبة لأهداف عسكرية، فموقع القلعة استراتيجي بإشرافها من جهاتها الثلاث على منطقة سهل البقاع، وعلى جبل حرمون المطل على سوريا وفلسطين من الجهة الرابعة.
في فترة الاحتلال العثماني، استوطنتها الأسرة الشهابية منذ 1370 حين تولى الأمير أبو بكر شهاب ولاية حاصبيا، فبنى منزلا “صيفيا” له داخل القلعة ما زال قائماً (في القسم الذي يتواجد فيه الجيش اللبناني منذ 1964). كما بنى الشهابيون الذين حكموا وادي التيم مدخل القلعة والسور والقناطر من الجهة الجنوبية الغربية.
أما السور الشرقي فقد بناه الفرنسيون بعد دخولهم إليها. في 22 تشرين الثاني 1925 اقتحم المقاتلون في الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش أسوار القلعة لتحريرها من الحامية الفرنسية وقد سقط العديد من الشهداء من أبناء راشيا والجوار في تلك المعركة. وفي الساحة العامة للقلعة تنتصب اليوم لوحتان تحمل إحداهما أسماء القتلى الفرنسيين والثانية أسماء شهداء منطقة راشيا.
أعاد الفرنسيون بناء الجناح الأحدث في القلعة من حجارة منازل أهل راشيا، ومعظمهم من عائلة مفرّج، بعدما دمّرها الانتداب بالمدفعية خلال الثورة، وتم حينها القضاء على أعداد هائلة من المواشي لعرقلة تحرك الثوار وما زالت الصور شاهدة على ذلك ومعروضة في الجناح الذي عاد وسجن الفرنسيون فيه رجال الاستقلال.
أما الأسباب التي دفعت الفرنسيين الى سجن رجال الاستقلال في قلعة راشيا فتعود بالدرجة الأولى الى موقعها الكاشف على السهل والمناطق المجاورة من جميع الجهات، وثانياً بُعدها عن العاصمتين اللبنانية والسورية وعن المدن الأخرى، لا سيما في ظل وعورة طريقها في ذلك الوقت، ما جعل منها منفىً حقيقيا يقيهم ردود فعل الشعب آنذاك. خصوصا أيضا ان منازل راشيا ليست قريبة من القلعة وأي تحركات محتملة تحتاج الى وقت لا بأس به للوصول اليها ما يمكّن الفرنسيين من كشفه واستدراكه بسهولة.
عزلت السلطات الفرنسية المعتقلين في ثلاث غرف منفصلة منعا للتفاعل في ما بينهم. الرئيس بشارة الخوري في غرفة منعزلة، والرئيس رياض الصلح في غرفة أخرى، وغرفة خارج الجناح سجن فيها أربعة وزراء ونواب هم: سليم تقلا وعادل عسيران وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي. في 22 تشرين الثاني 1943 أطلق الانتداب سراحهم، فاعتبر هذا التاريخ يوم الاستقلال اللبناني.
وتتابع الدليل سلوى ناجي شرحها: القسم السفلي لجناح الاستقلال يعود الى الحقبة البيزنطية، وقد تحول الى اسطبل للخيل أيام الانتداب الفرنسي فيما كان استخدمه العثمانيون سجنا لأهالي راشيا والمنطقة. وأطلق عليه آنذاك اسم “سجن الأفعى” (حبس الحية) التي يتردد أنها لدغت أحد المساجين بفعل سهولة اختراق الحشرات والزواحف الجدران بسبب الثقوب الناتجة عن البناء بالحجر والتراب.
المُلفت هو هندسة بناء القلعة. فكل سقف من القبو المؤلف من قناطر وعقود بيزنطية لديه قفل ومفتاح في وسطه الأعلى. وكانت تتم طريقة البناء بصفّ الحجارة بشكل متواز وحشوها بالتراب في الوسط (صف من الأحجار يقابلها صف آخر ويتم حشو التراب بين الأحجار وبين الصفين). فضلا عن ذلك، اعتمدت هندسة البناء “حبكة ال 7 و8 ” كأساس في بناء العقد الصليبي والتي تقضي بأن يتم البناء بشكل متواز يتيح للصف الأخير والداخلي من الحجارة والتراب الإلتقاء بالتساوي عند القفل الذي يتخذ شكل حجرة مستطيلة. وتتكرر عملية البناء هذه في كل عقد، فاذا ما أراد البناؤون هدم أي عقد في المستقبل يمكنهم إزالة المفتاح من دون ان يصيب العقود الأخرى أي ضرر.
تختم ناجي: في العام 1997 صنّفت وزارة السياحة اللبنانية قلعة راشيا موقعا سياحياً، وتم ترميم جناح الاستقلال الذي تحوّل مزارا سياحياً تاريخياً نموذجياً تسلمته بلدية راشيا بعدما أخلاه الجيش اللبناني، الذي ما زال يحتفظ بالقسم الأكبر من القلعة. وقد ساهم في ترميم وتجهيز الجناح والباحة الخارجية، مؤسسة الوليد بن طلال.
ويشير دلال الى توجه لتجهيز الغرف التي اعتقل فيها رموز الدولة لتصبح في المستقبل متحفاً تاريخيا، لا سيما وأن قوافل الطلاب تزور القلعة دوريا من مختلف المناطق لتتعرف على صفحة مفصلية من تاريخ لبنان المعاصر، كما يزورها السياح لموقعها الجغرافي والتاريخي المميز.
يُذكر ان مساحة قلعة راشيا تبلغ 8000 متر مربع وترتفع عن سطح البحر نحو 1300 متر.
سوق راشيا
بعد القلعة، اصطحبنا صديقنا الى سوق راشيا التراثي الجميل.
يشرح دلال: يعود بناء السوق التراثي في راشيا لأكثر من مئتي عام وكان محطّ اهتمام كبير للقوافل التجارية التي كانت تربط سوريا ولبنان وفلسطين. فقبل اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الحدود بين الدول، اعتبرت راشيا محطة وصل أساسية على الطريق بين هذه الأقطار، لذلك كانت للسوق أهمية كبرى. وكان يلتقي فيه التجار المارّين من دمشق وفلسطين وأولئك الذاهبين الى بيروت والبحر المتوسط. ولذلك كان السوق بمثابة مستودع كبير للبضائع والمواشي والخيول والمرجعية التجارية الوحيدة في البقاع لموقعه في الوسط، ولطبيعة المنطقة أيضا حيث كان يحلو للقوافل الاستراحة فيها من طرقات وعرة وطويلة وشاقة. ويتابع دلال: ولكن للأسف بعد سايكس بيكو توقفت راشيا عن لعب دور الملتقى وأضحت من “الأطراف”.
يشير شوقي دلال الى أن ما يميز سوق راشيا اليوم أنه بطول 250 مترا وهو السوق الأثري الوحيد في لبنان بهذا الطول المستقيم من دون تعرجات. وقد أعيد ترميمه عام 1997 بناء على مسعى من جمعية محترف راشيا. فتم تجديد الأبواب والقناطر والقرميد والأرصفة… وموّلت المشروع بالكامل وزارة السياحة. وتقام فيه اليوم مهرجانات موسمية تعرض فيها المنتوجات الحرفية والمونة القروية وتستقطب أهالي الجوار.
ودعا دلال البلدية الى تحويل السوق الى مساحة دائمة للمهرجانات والمعارض وتلزيم المشاريع السياحية فيه من مطاعم ومقاهي وتقديم حوافز لتفعيله. فالمنطقة الجميلة بحاجة الى مشاريع سياحية وتنموية تضعها على خارطة الاهتمام وإمكانيات البلدية متواضعة من هنا دور الجمعيات والمبادرات الفردية.
شجرة النذور المباركة
في نهاية جولتنا السريعة على بلدة راشيا الوادي الساكنة الجميلة بهندستها وطبيعتها وموقعها، دعانا دلال للمرور بشجرة الأمنيات أو شجرة النذور للتبارك بها!
ولهذه الشجرة المعمّرة حكاية أسطورية طريفة يطيب لأبناء المنطقة تداولها والاعتزاز بها. تقول الحكاية إن لهذه الشجرة قدرة سحرية على تحقيق أمنيات مَن يقصدها. كلّ ما عليك فعله هو أن تعلّق عليها أمنيتك وتبادرها الحب والاحترام!
يقيّم خبراء البيئة عمر الشجرة ب 800 عام بحسب دلال وهي مقدّسة لانها كانت ملتقى يظلل مشايخ العقل من الموحدين الدروز ورجال الدين المسيحيين المارّين بها في طريقهم صعوداً الى الجبل ونزولا الى سهل البقاع.
فكان رجال الدين يمارسون شعائرهم في ظلالها ويتمنون أن يصلوا الى منازلهم البعيدة بخير وسلام. وقد كرَّس هذا الموضوع الشيخ ابو محمد هلال بين 1570 و1635 وكان شيخا ورعا يتعبّد تحت هذه الشجرة.
تُروى عن الشجرة قصص كثيرة إحداها ان هناك راعيا من راشيا مرّ بها فطلب منه الناس أن لا يطعم مواشيه منها. الا أنه سخر منهم ولم يوافقهم. فكانت المفاجأة الحزينة بقضاء اثنتي عشرة نعجة من نعاجه. إلى ألف حكاية وحكاية.
في الختام يودّعنا رئيس محترف راشيا للفن التشكيلي شوقي دلال ويعدنا ببشرى: قريباً سيكون في راشيا فرع للكونسرفاتوار الوطني، يسعى مع وزير الثقافة لإقامته في أحد بيوت راشيا التراثية بالتعاون مع البلدية.
قد يكون قدر راشيا أن يختارها الفرنسيون منفىً لرجالات الاستقلال، فيدخلوها بذلك كتاب تاريخ لبنان المعاصر، ويعيدوا لها دوراً كان طواه الزمن والنسيان، ولكن زائرها اليوم سرعان ما سيلاحظ أنها ليست فقط هذا المنفى التاريخي. إنها موطن فريد للتراث القروي اللبناني الجميل الذي لم يتلوّث بعد بتدخل الانسان، حيث كل زاوية تعبق بالحب والسكينة، كعصفورٍ حطَّ على غصنٍ وانتظر.
الاثنين 5 آب 2019