غسان صليبي – النهار – معظم المنتفضين يسمّون ما يقومون به “ثورة” أما المعترضون فيسمّونه “حراكا”، حتى لو أضافوا انه مسيّر من الخارج. المنتفضون يحاولون من خلال كلمة “ثورة” ان يعلوا من شأن ما يقومون به، والمعترضون يحاولون ان يقلّلوا شأن ما يحدث من خلال استخدامهم كلمة “حراك”. لكن الفريقين يطلقان تسمياتهما من دون أي محاولة جدّية لتبريرهما. من جهّتي فضّلتُ ان أسمّي ما يجري “إنتفاضة”، لثلاثة أسباب على الأقل:
الأول، لأن ما يجري تحرّك شعبي كبير بعد استكانة، تيقّظ بعد سبات، رفض بعد خضوع، وهي معانٍ متّصلة بكل عملية انتفاض. وهذا أكثر من حراك، لأن الحراك يشير الى نشاط ولا يحمل بالضرورة معاني التيقّظ والرفض، وليس حركة جماهرية ضخمة.
الثاني، لأن المسار حتى الآن يبقى ضمن الإطار الدستوري، في آليات التحرّك كما في مطاليبه. وهذا أقل من “ثورة” لأن الثورة تتجاوز عادةً القواعد الدستوريّة في آلية عملها وفي أهدافها.
الثالث، لأنني ببساطة لم أفهم بعد جيّدًا ما الذي يجري على رغم مشاركتي فيه. احتياطيًّا ومرحليًّا، أفضل أن أسمّيه إنتفاضة.
لست هنا لأبحث في المصطلحات بقدر ما أحاول فهم الانتفاضة التي أنتمي اليها ويقودها شبّان بلادي. ولا سيما انني لست من الذين يقودون الانتفاضة ويوجّهون حركتها، بل تقتصر مساهمتي على وجودي الشخصي في الساحات كما في كتاباتي المتواصلة حول الموضوع ومشاركتي في بعض الحلقات النقاشيّة.
أعرف مسبقًا ان الأجوبة التي أبحث عنها هي عند الشباب وربما بشكل ضمني حتى الان. كل ما أطمح اليه في هذا النص هو اختصار الأسئلة الأساسيّة التي أزمع طرحها على مجموعات شبابيّة مختلفة لأفهم منها ومن خلال تحليلها، هي، ماهية الإنتفاضة وآفاقها.
سأضع جانبًا مصطلحات الحراك والإنتفاضة والثورة وأستبدلها بمصطلح “الحركة الإجتماعيّة” لسببين متصلين.
أولاً، لأن تعريف الحركة الإجتماعيّة يتلاءم الى حد بعيد مع ما يجري على الأرض من تحركات: مجموعات بشرية كبيرة من الافراد الذين يتحركون ويعارضون نظامًا كاملاً أو جزءًا منه. هذا التحرّك يحمل في طيّاته مشروعًا للتغيير الإجتماعي ولا يقتصر على التعبئة الشعبيّة ضدّ أمر واقع. كما ان التحرّك الشعبي اللبناني يحاول أن “يصنع التاريخ” كما عبّر عنه طلاّب لبنان عندما قالوا انهم لا يريدون دراسة التاريخ بل صنعه. هذه الصفة تحديدًا، أي التأثير في مجرى التاريخ، هي أحد العناصر الأساسيّة في تعريف الحركة الإجتماعيّة. واضح ان التحرّك الشعبي اللبناني، يسعى منذ بداياته، الى وقف مسار معيّن للتاريخ، وفتح الطريق أمام مسار آخر.
السبب الثاني الذي يجعلني أفضّل مصطلح الحركة الإجتماعيّة، هو أن هذا المصطلح يتفوّق على المصطلحات الأخرى كونه نابعًا من دراسات ميدانية حديثة سمحت له بالإحاطة بشكل أدّق بالظاهرات التي تشبه الظاهرة اللبنانيّة.
كما ان هذا المصطلح بحدّ ذاته، وعند تطبيقه على الواقع، لا يمنع إستنتاج ان الظاهرة التي يجري درسها هي مثلاً أقرب الى الإنتفاضة منها الى الثورة أو العكس.
قلنا ان الحركة الإجتماعيّة ليست مجرّد تعبئة شعبيّة ضد واقع معيّن بل هي مشروع لتغيير هذا الواقع. لكن، حتى تتمكّن هذه التعبئة من بلوغ هذا الهدف، عليها ان تتوفّر فيها ثلاثة مبادئ: مبدأ الهوية، مبدأ المعارضة ومبدأ الشمولية.
مبدأ الهوية يتعلّق بهوية “الذين يتحركون”، لكن من وجهة نظر المنتفضين أنفسهم. وهذا ما أودّ معرفته بدقة اكبرعندما سألتقي بالمجموعات الشبابيّة.
من الخارج، يمكننا ان نلاحظ وجود مجموعات متعدّدة. من الناحية الديموغرافيّة: مجموعة شبابيّة غالبة. من الناحية التنظيميّة: مجموعات مختلفة تمثّل “هيئات المجتمع المدني” تشكلت منذ ما قبل الإنتفاضة، ومجموعات تمثّل أحزابًا تعتبر نفسها معارضة للسلطة. من الناحية الجندرية، العنصر النسائي بارز في المجموعات كافة.
على المستوى الطبقي، تبدو الطبقة الوسطى المتعلّمة حاضرة بقوّة مع بعض الفئات البورجوازيّة، وفئات فقيرة من المتوقّع ان يزداد عددها مع استفحال البطالة والصرف من الخدمة وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة. نسبة الفئات الفقيرة تختلف بين ساحة وأخرى، وهي مرتفعة مثلا في طرابلس. هذا المزيج الطبقي يمكن تفسيره من ناحية، بالهوية الوطنية الجامعة للمنتفضين الذين يصرون على اعطاء تحركهم بعدا وطنيا، ومن ناحية ثانية، بأن المشكلات لا تقتصر على مستوى الدخل، بل تشمل اساسا الخدمات العامة التي يعاني منها المواطنون كافةً من مختلف الطبقات ولو بدرجات متفاوتة.
الجامع بين المجموعات هو تأكيدها “لبنانيتها” خارج الاصطفافات الحزبية والمذهبية والدولية.
هوية الفاعلين تتوضّح أكثر من خلال الصراع مع الخصم، وهي لا يمكن ان تتحدّد بغض النظر عن الصراع الفعلي.
“من هو الخصم؟” هو السؤال الذي يتعلّق بمبدأ المعارضة. بحسب نظرية التحركات الإجتماعيّة، لا يفترض التحرّك تحديدًا مسبقًا للخصم، بل إن الصراع هو ما يؤدّي الى بروز الخصم في وعي المنتفضين. ولا يمكننا الكلام عن توفّر مبدأ المعارضة إلاّ إذا شعر المنتفضون انهم يواجهون قوة إجتماعيّة تجعل الصراع صراعًا على التوجّهات العامة السائدة او التي يمكن ان تسود في المجتمع.
إذا كانت التحرّكات قد بدأت رفضًا للضريبة على “الواتساب” مستهدفةً وزير الإتصالات بشكل خاص، إلاّ انها تحوّلت بسرعة فائقة الى معارضة للسلطة السياسيّة بأكملها تحت شعار “كلن يعني كلن”، وهو شعار يطال مواقع السلطة بكامل مؤسساتها التنفيذيّة والتشريعيّة، وقد أضيفت اليها السلطة القضائيّة.
على رغم التمسّك بشعار “كلن يعني كلن”، أدى الصراع الى بروز “خصوم رئيسيين” عارضوا بشكل واضح التحرّكات وأسقطوا عليها أهدافًا لم تضعها لنفسها. مع ذلك، لم تعدّل التحّركات شعارها العام ولم تركّز ضغطها في إتجاه “الخصوم الرئيسيين”. على المستوى العملي، تشتتت الضغوط وراحت تطال خصومًا غير سياسيين، من مثل مصرف لبنان والمصارف وإدارات لمؤسسات متهمة بالفساد.
تعدّد الخصوم أشار بوضوح إلى ان التحركات تعترض على ممارسات سياسيّة وإقتصاديّة وماليّة وإداريّة وبيئية، وهي في هذا المعنى تحاول ان تعيد النظر في التوجّهات العامة السائدة في المجتمع. وهذا ما سيتوضّح أكثر عند تطرّقنا الى مبدأ الشموليّة.
مبدأ الشموليّة يحاول ان يجيب عن سؤال “لماذا نتحرّك أو ننتفض أو نثور؟”. ما يميّز الحركة الإجتماعيّة عن التحرّك الجماعي بشكل عام، هو سعيها إلى تغيير الوجهة العامة للمجتمع. الى أي حد ينطبق ذلك على التحرّكات الشعبيّة اللبنانيّة؟
يعتقد البعض ان البرنامج يأتي قبل التنظيم. الممارسة العملية تقول العكس: في البداية لا تكون المطالب واضحة، لكن البرنامج يبدأ بالتبلور بعد ان يجتمع الناس ويشعروا بالقوّة والوحدة.
مطالب التحركات الشعبيّة اللبنانيّة طالت مختلف أوجه الحياة المعيشيّة والمهنيّة والإقتصاديّة والماليّة والإداريّة والسياسيّة والبيئية. شمولية المطالب تعطيك الإنطباع بأن الشعب يواجه نظامًا متكاملاً متآكلاً بعناصره جميعها.
وإذا كان هذا “النظام” لم يجرِ تحديده بوضوح بعد على رغم مطالبة البعض بـ”إسقاطه”، إلاّ أن المتداول هو كونه “نظامًا طائفيًّا”.
المطلب الأبرز للتحركات الشعبيّة اليوم هو تأليف حكومة إنتقاليّة من شخصيات مستقلّة ومتخصّصة في مجالات وزاراتها، مهمتها من شقّين: معالجة الأزمة الماليّة – الإقتصاديّة – المعيشيّة والإعداد لإنتخابات نيابيّة مبكرة.
المعالجات الإقتصاديّة – الماليّة المطلوبة من الإنتفاضة غير محدّدة بعد بشكل نهائي، بل هي مجموعة أطروحات مختلفة المصادر، متناسقة أحيانًا ومتناقضة أحيانًا أخرى.
وإذا كان النظام الرأسمالي بمنأى بشكل عام عن التصويب المباشر، إلاّ أن “النموذج الإقتصادي الريعي” هو الأكثر إنتقادًا ويلقى اجماعا حول ضرورة تغييره في إتجاه نموذج إنتاجي. مع الإشارة إلى ان مطالبات بتأميم المصارف برزت في الآونة الأخيرة ومع استفحال أزمة المصارف الممتنعة عن تسليم المودعين مدخّراتهم. كذلك، وردًّا على صرف الموظفين والعمّال من الشركات أو دفع جزء من معاشاتهم، بدأت تطرح أفكار حول التسيير الذاتي للشركات.
في الشق السياسي، المسألة معكوسة: هناك تركيز على “النظام الطائفي” وتجاهل نسبي لـ”نموذج الحكم” القائم. هناك مطالبة واضحة بـ”الدولة المدنية” في الساحات ونقاشات حول مفهوم هذه الدولة. في إعتقادي ان إشكاليّة مهمة، في هذا الاطار، لا تناقش بالجديّة اللازمة: هل نحن في نظام طائفي أم مذهبي؟ هل هذا النظام هو في الواقع نظام مستقل أو فرعي في إطار نظام إقليمي مذهبي يشمل لبنان والعراق وسوريا، بإدارة جزئيّة من إيران؟ تاليًا كيف نبني دولة مدنية في هذه الحال، وهل يقتصر التغيير على طائفيّة السلطة السياسيّة أم يشمل علمانية المجتمع والدولة ككل؟
عدم وضوح موازين القوى بين الإتجاهات المختلفة داخل الإنتفاضة، لا يسمح بالإجابة عن هذه التساؤلات. ينسحب عدم الوضوح على “نموذج الحكم”، هذا النموذج العاجز عن تأليف حكومات وإتخاذ القرارات والمتنقّل دوريًّا من تعطيل الى آخر.
حتى الآن تتعامل الإنتفاضة مع هذه المسألة بتبسيط تام: الحل هو بإلغاء النظام الطائفي الذي يعطّل ممارسة السلطة! الغائب الأكبر في أطروحات الإنتفاضة هو الديموقراطيّة السياسيّة المعطّلة بسبب عاملين إثنين على الأقل: إلغاء النظام البرلماني الذي ينص عليه الدستور لصالح المحاصصة الطائفيّة، وتدخّل عنصر القوّة المسلّحة في نسج التحالفات وتركيبة السلطة منذ ما سمّي بـ”غزوة بيروت” سنة 2008 واتفاق الدوحة، مرورًا بإنتخاب رئيس الجمهورية بدعم من “حزب الله” وعلى رغم معارضة معظم الأطراف الآخرين في المراحل الأولى من تأجيل الإنتخابات الرئاسيّة.
الإنتفاضة لم تتطرّق الى “نموذج الحكم”، لا بل ان شعار “كلن يعني كلن” شعار كمّي لا يتوقّف عند نوعيّة السلطة وتركيبتها.
على رغم ذلك، سرعان ما استشعر “حزب الله” أن الإنتفاضة تطال هذه التركيبة، فألقى السيّد نصر الله خطابين متتاليين بعد يومين فقط من بدء الإنتفاضة، دافع فيهما عن السلطة ورفض مطلب الإنتخابات المبكرة، أي عمليًّا رفض المس بهذه التركيبة. مع العلم ان السيّد نصر الله وفي آخر كلمة له في 13 كانون الأول، وردًّا على تصريحات مسؤولين أميركيين، أقرّ بأن الإنتفاضة لم تهاجم “حزب الله” ولم تحمّله مسؤولية الأزمة كما يدّعي الأميركيون. لكن الواضح من مشاورات تكليف الحكومة وتأليفها، أن الإنتفاضة بحركتها عدّلت بدون قصد من موازين القوى في تركيبة السلطة. فبعدما كان “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” في الموقع الأقوى في هذه التركيبة، نراهما اليوم في موقع دفاعي في حين بدا الحريري وتيار “المستقبل” في موقع هجومي.
هذا التعديل في موازين القوى لا يخدم الإنتفاضة بالضرورة، بل يترك اللعبة السياسيّة في يد الأطراف الطائفيّين الذين يتصارعون على حصصهم داخل التركيبة السياسيّة، مما يستدعي إعطاء الإنتفاضة المزيد من الإهتمام بمسألة الديموقراطية البرلمانيّة كآلية لتكوين السلطة، وعدم التعويل فقط على طرح مطلب الدولة المدنية كعلاج وحيد لمشكلات ممارسة السلطة.
لا بدّ أن تصبح المسألة أكثر تعقيدًا مع تفاقم الأزمة الماليّة والمعيشيّة، بحيث من المرجّح ان يتدخّل صندوق النقد الدولي، وان ينتقل تاليًا موقع السلطة الفعلي من الداخل الى الخارج. هنا لا بدّ للإنتفاضة من ان تطرح نظرتها إلى “الإصلاح”، التي تختلف عن نظرة صندوق النقد الدولي وبعض أطراف السلطة، وأن تفرض نفسها كمفاوض مع هذا الصندوق، إذا أرادت ان يبقى الشعب، كما تطالب منذ 17 تشرين الأول، هو مصدر السلطات.
“النموذج الإقتصادي” و”نموذج الحكم” السائدان هما في علاقة دعم متبادل. فـ”نموذج الحكم” كان يحكم من خلال النموذج الريعي الذي ضمنته المصارف من خلال استدانة الدولة منها، واستخدام المسؤولين هذه الأموال المستدانة، في تغذية الزبائنيّة المذهبيّة عبر الفساد والسرقة والهدر.
تطوّر الحركة الإجتماعيّة اللبنانيّة يعتمد على كيفية تفاعل مبادئ الهويّة والمعارضة والشموليّة بعضها مع بعض. اهمية مفهوم الحركة الاجتماعية، ان هذه الحركة “انتفاضة مستدامة” أي انها لا تقتصر على مرحلة محددة ولا تتوقف مع توقف الاحتجاجات في الشارع، بل تتواصل عبر مفاعيلها في المؤسسات، كما بدأ يظهر مع انتخابات نقابة المحامين. لهذه الملاحظة اهميتها القصوى في مرحلة لجوء الانتفاضة المضادة الى المزيد من القمع.
للبحث صلة، بعد اللقاءات النقاشيّة مع الجماعات الشبابيّة المختلفة.
المصدر: موقع النهار – غسان صليبي
الاثنين 16 كانون الأول 2019