ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة المقر البطريركي الصيفي في الديمان، عاونه المطرانان حنا علوان وجوزف علوان، ومشاركة المطران مطانيوس الخوري، القيم البطريركي الاب طوني الآغا، أمين السر الاب هادي ضو، رئيس جمعية رسالة وحياة الاب وسام معلوف، الاب فادي تابت، الاب جورج يرق وعدد من المؤمنين التزموا الاجراءات الآمنة.
وبعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “سوف يقوم مسحاء دجالون وأنبياء كذبة … ليضلوا المختارين أنفسهم، لو قدروا”(متى 24: 23)، قال فيها: “في معرض جوابه عن نهاية العالم ومجيئه الثاني، تكلم الرب يسوع عما يعترض الكنيسة، بمؤمنيها ومؤسساتها، من مصاعب ومحن في مسيرتهم التاريخية، فيما هم يؤدون رسالة إعلان إنجيل ملكوت الله، وبنائه في المجتمعات البشرية على أسس القداسة والمحبة والحقيقة والعدالة، والأخوة والحرية. ومن أهم هذه المصاعب ظهور مسحاء دجالين وأنبياء كذبة يعملون على تضليل المؤمنين، لو قدروا (متى 24: 23).
نصلي من أجل حماية الكنيسة ومؤمنيها ومؤسساتها من شر هؤلاء. فهم في عصرنا الحاضر أشخاص وايديولوجيات وتيارات، يضلون الناس بطروحات فكرية وأخلاقية منافية لتعليم الإنجيل والكنيسة، كسبا للمال أو الشهرة أو النفوذ. فيخضع لهم ضعفاء النفوس والإيمان، لكي يتحرروا من التعليم السليم، والأخلاقية المسيحية، ويبرروا عدم التزامهم بواجبات العبادة، والحياة الأسرارية، وتقديس يوم الرب الذي هو يوم الأحد.
في هذا الأحد الأخير من وجودنا في الكرسي البطريركي الصيفي في الديمان، وهو أحد تكريم سيدة الوردية، نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية وما زال قلبنا يعتصر ألما لضحايا انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، ولم يسفر التحقيق العدلي عن أية نتيجة، فيما الموقوفون ينتظرون بألم شديد حكم الإدانة أو البراءة بعد ستين يوما تماما. نصلي لراحة نفوس الضحايا، وايجاد المفقودين وعزاء أهلهم وعائلاتهم، وشفاء الجرحى، وافتقاد المنكوبين بأعمال المحبة والتضامن من الأفراد والمؤسسات الإنسانية والجمعيات والدول. وجميعهم مشكورون على مبادراتهم الفردية والجماعية. ويزداد ألمنا بتفشي وباء كورونا، فنصلي من أجل شفاء المصابين، وإبادة هذا الوباء، وخلاصنا وكل العالم من شره، فيما هو يشل الحركة في الكرة الأرضية، ويوقع الضحايا البشرية والخسائر المادية، ويزيد من أعداد الملايين من الفقراء والجياع. فنصلي:إرحم يارب، إرحم شعبك. ولا تسخط علينا إلى الأبد!
ومما يؤلمنا بالأكثر : إهمال السلطة السياسية لشعبها، وتحكم الجماعة السياسية بمصير بلادنا، وإمعان النافذين في إفشال تأليف حكومة تتولى إدارة شؤون البلاد، بعدما نجحوا في إرغام رئيس الحكومة المكلف على الإعتذار، رغم المبادرة الصديقة التي بادر بها مشكورا الرئيس الفرنسي Emmanuel Macron. فنقول لهم جميعا: لستم أسياد الشعب بل خدامه! وليست الدولة ملككم، بل ملك شعب لبنان! لا يحق لأحد منكم أو لفئة أو لمكون أن يجعل من لبنان حليفا لهذه أو تلك من الدول في صراعها ونزاعها وحروبها وسياساتها، بل لنجعله صديقا ووسيط سلام واستقرار! لا تجعلوا من لبنان صوتا لهذه أو تلك من الدول بل حافظوا عليه صوتا حرا للحق والعدالة وحقوق الإنسان والشعوب! حافظوا عليه في هويته السياسية وهي حياده الناشط الذي يحرره من حالة التبعية إلى الخارج، ودوامة الحروب؛ ويحقق سيادته الكاملة داخليا وإقليميا ودوليا، مرتكزة على دولة القانون، وعلى جيشها وسائر قواها المسلحة؛ ويمكنه من القيام بدوره ورسالته في الأسرتين العربية والدولية.
ألم يحن الوقت، بعد كل مآسينا، أن نبدأ نهجا جديدا لتجديد وطننا بقيمه التاريخية، على مثال المسيح الرب الذي قال: ها أنا آت لأجعل كل شيء جديدا” (رؤيا 21: 5).
فتجاه الانسداد المدبر، حيث لا حكومة، ولا خطة إنقاذ، ولا إصلاحات، ولا احتكام إلى الدستور، ولا حياء، يجدر بنا جميعا أن نفكر في إحداث خرق من دون انتظار أي استحقاق خارجي. فانتظار الخارج يثبت تعدد الولاءات شرقا وغربا. إن فداحة الأوضاع واحتمالات حصول تطورات من طبيعة متنوعة، تحتم الإسراع بتأليف حكومة تجسد آمال المواطنين، لينتظم العمل الدستوري والميثاقي، فلا يبيح أحد لنفسه استغلال حالة الغيبوبة الدستورية أو تصريف الأعمال، أو وباء كورونا، وما هو أدهى من ذلك، ليخلق أمرا واقعا. ليت جميع القيادات اللبنانية، الروحية والرسمية والسياسية والحزبية، تستعيد مبادرة اللقاء حول الثوابت الدستورية والميثاقية وتلاقي وجع الناس وحاجة البلاد إلى الخروج من أزمتها العميقة.
تلقينا بأمل إعلان الدولة اللبنانية توصلها إلى اتفاق إطاري لترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل بما يسمح للبنان بأن يستعيد خط حدوده الدولية جنوبا، ويسهل له استخراج ثرواته البحرية من النفط والغاز، وينهي مسلسل الاعتداءات والحروب بين لبنان وإسرائيل، بموجب القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، ويضعه على مسار التفاوض السلمي عوض القتال، من دون أن يعني ذلك عملية تطبيع. ولا بد في المناسبة من إيجاد اتفاق يحل مسألة وجود نحو نصف مليون لاجئ فلسطينيٍ على أرض لبنان، والعمل على ترسيم الحدود مع سوريا لجهة مزارع شبعا، وإنهاء الحالة الشاذة والملتبسة هناك.
ألاحظ بألم كبير ميل لبنانيين إلى مغادرة البلاد بحثا عن عمل وأمن وحياة كريمة. وإذ أتفهم معاناة الشباب والشابات والعائلات وسبب رغبتهم القسرية بالابتعاد عن المآسي، وإذ أشاركهم خيبة أملهم من كل شيء، نعم من كل شيء، أدعوكم يا شاباتنا وشبانبا إلى التأني في التفكير قبل اتخاذ قرار الهجرة. أعرف أنكم تغادرون مكرهين، تسيرون وتنظرون إلى الوراء حبا بمن وبما تتركون، تحملون ذكرياتكم وجراحاتكم، وتخفون دموعكم في حقائبكم، وتحفظون لبنان في قلوبكم.
إن الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية والاجتماعية تعم العالم، والعالم يرتعد من وباء كورونا الجامح وقد ازداد انتشاره في لبنان. كل ذلك لا يسهل للذين يفكرون في المغادرة فرص الاستقرار في بلاد الاغتراب. إن لبنان بحاجة إليكم أنتم بالذات: إلى أخلاقكم وضمائركُم، إلى ثورتكم وغضبكم، إلى علمكم وثقافتكم، إلى رقيكم وحضارتكم ونمط عيشكم. لبنان يناديكم فهو مثلكم معذب ومصدوم. مزيد من الصمود ونخرج بنعمة الله وقدرته إلى حال أخرى افضل. لا، لبنان لن يركع، لبنان لن يسقط. كل ما نراه، وخصوصا الآلام، هي دليل على أن لبنان سيخرج من بين الأنقاض شأنه في كل ظروف تاريخه التي كانت أقسى وأدهى.
وبعد القداس، أقيمت صلاة مسبحة الوردية تكريما للسيدة العذراء.
الأحد 4 تشرين الأول 2020 الوكالة الوطنية للإعلام