رحيل جود أبو صوان ابن صغبين “الناسك المُتفرّد”

رحل المفكر والأديب الدكتور جود أبو صوّان من بلدة صغبين في البقاع الغربي أمس تاركاً للمكتبة اللبنانية والعربية عشرات الكتب والأبحاث التي ألفها. وقد نشر رئيس جمعية محترف الفن في راشيا شوقي دلال كلمة رثاء بالراحل كتبها د. شوقي أبو لطيف جاء فيها:

على كتف البحيرة، وبالقرب من أحراج خضر، وصخور مكتحلة بالتراب، كان هناك رجل ذو ملامح وسيمة، وهمّة علياء نبيلة، يزرع الأمداء بالمستحيلات، يوقظ، قبالة القرى المنثورة حول بحيرة القرعون، محابر ومنابر ومنائر.

لكأنه الناسك المُتفرّد، في حمأة زمن صاخب بالمجون، ناسك في المعنى، دونما تسمّر الشكل في كهفيّة الأثر الفني للجسد.

كان جود أبو صوان جودي اليد، حوذياً يمهر قيادة النفس وحث العقول على ارتياد منابت غير مألوفة من مناحي الغرس والقطاف، كيف لا وهو الناسك المُتفرّد، الباسق نوراً من سرائر الأرض المعطاء، التي أنجبت سُراة لبنان، من وجهتي جباله الساحليّة والداخليّة، أولئك الذين لطالما انجذب إليهم الوجد، منذ قديم الشرق، توقاً الى رؤية ورؤيا.

وإذ كنت لا أدري ما إذا كان هذا الفذ الراحل قد كتب سيرته المشرقة قبل المغيب عن دنياه، وتركها في أدراج مكتبته الأنيقة، فإن اللجوء الى الذاكرة، يجعلني أستعيد شريط الإصغاء الى أحاديثه وذكرياته وتجاربه ومغامراته الشيّقة، والتي يُستدل منها على عصامية تكتنز الكثير من المواهب والمهارات والمعارف، صهرها الفقيد الراحل في ذاته الغنيّة الفتيّة بيقظة عقل وكبر قلب وحب، على إيقاع فريد قلّ نظيره.

فلقد جمع جود أبو صوّان بين الفراسة والكياسة، بين الحدس والتحليل النفسي، بين التعليم والتثقيف، بين الحضور النخبوي والإنهمام الشعبي، بين سياسة النفس وسياسة الجسد، تسعفه في ذلك ثقافة موسوعية وعلم وافر وعقل نيّر ودأب على القراءات التي ترتكز الى نزعة نقدية متجاوزة.

لم تستهوِ جود أبو صوان التائق دوما الى حريّة، هي في الحقيقة نتاج تطوّر الوعي، أية أطر عقيدية أو حزبية، أو طائفية، أو غيرها، إذ كان يرى في كل منها هنات معيقة للتسامي العقلاني، والتحقق الوطني والإنساني.

أما وقد جمعته بالمعلم كمال جنبلاط ذات يوم صداقة وطيدة، ونشاط حزبي في المنحى العقائدي، لكن ذلك لم يكن ليدوم، بسبب الحرب الأهليّة وما رافقها من تفكك ومآس وتداعيات، على أنه، ومنذ مدّة قصيرة، كان يستعيد وثيقة قديمة تبرز علاقة تاريخية طيبة بين جدوده من أبناء المختارة وآل جنبلاط.

لقد حدّثني الناسك المُتَفرّد عن اللاطقوس في كيان المؤمن، وعن اللانصوص في تبيان اليقين، وعن التاريخ عندما يُكتب لتمويه الحقائق وتوهيم الوقائع، وعن الأفكار الشائعة التي تتملك الأذهان بسبب من تلقين أو تعليم أو تعتيم. كان يقرأ الأسفار على غير ما يقرأها غيره، إذ ان هذا الراصد اليقظ سرعان ما يكشف عن لبس يشوب ما هو مكتوب، فلا يلبث أن يقرع جرس النقد ملتفتاً بعناية وحذق الى ما يعتري العبارة الملتبسة أو المتلبسة معرفياً، من انحراف عن موضعة العقل وإدراك الحس السليم، لكأنّه نُذر الى تنقية ما يكدّر المعارف من ذاتيات معتمة تكتنف المؤلفات والتعليمات على كثرتها.

في كتابه “شخصيتك والمستقبل في يدك”، يجمع جود أبو صوان ببراعة نادرة بين ما تأدت اليه مدارس علم النفس الحديث والمعاصر وما تقرّه الفيزياء وسائر العلوم الطبيعية، وبين ما أقرّته الهرمسيّة المصريّة والفلسفة اليونانيّة القديمة، ولقد اندرجت هذه المنهجيّة مرّة اخرى في مؤلّفه “العلاقة بين النفس والجسد”، حيث يقع القارئ على دستور علاج مختلف، قوامه استنهال الوعي بالطاقة الكونيّة، وتوليد قوة إرادة وتركيز عبر رياضة للجسد وترييض للنفس، من منافذ متشكلّة في هندسة رمزيّة، لا يفقهها إلا المتبصرون بالمعرفة اللدنيّة.

وفي هذا كله يتجلى الناسك المُتَفرّد، القابع بين حرج أخضر وصخور دهرية وبحيرة تستدعي الدموع كي تمتلئ… كان ناسكاً يدهم النتوءات المعيقة، فيحاول تهذيبها كي لا تخدش العقل والنظر، كان ناسكا في وداعة وجه أنيس ينقل على قرطاسه المسطّر بالإباء، مداد وجدان وإنسان… لقد كانت لهذا الناسك المختلف تفسيراته الخاصة للتاريخ الديني، لا تتطابق البتة مع ما هو سائد وشائع في المندرجات القدسيّة للاهوت، وخاض في سبيل ذلك حوارات حادّة، لكنها لم تكن لتتناقض مع الجوانب المنيرة من عقول كهنة أصدقاء لم يكونوا ليكتموا الإعجاب بجرأة معرفيّة، وحجّة ألمعيّة، ودماثة محبّبة.

بيد أن صداقات صدوقة جمعت الناسك المُتَفرّد بشخصيات فقهية وقضائية ودينية إسلامية على امتداد المذاهب كافة، ولقد أثمرت تلك الصداقات مظاهر احترام مشرقة في كل مناسبة بين مكونات المجتمع الأهلي، في منطقة البقاع عامة والغربي منه وراشيا بخاصة، وكثيراً ما كان الدكتور جود النجم اللامع والإسم الجامع في كل المنتديات والإستحقاقات، والأحداث، والسياسات على اختلافها. وكان يقف إزاءها وقفة ضمير وطني حر من أجل الحفاظ على وحدة الإشتراك الحياتي وروعة الفسيفساء اللبنانية في بهاء الرسالة.

ولئن كانت للراحل الصديق الحبيب رؤية خاصة في الإيمان، يقرأها كل من يدخل البيت الصومعة على مدخل صغبين الغربي، ليجد على العتبة عبارة “لتكن مشيئتك”، لكأنها رديف للعبارة المكتوبة على معبد دلفيوس “أعرف نفسك”، إذ إنه يؤمن بوعي ويقين أن التسليم للمشيئة الإلهية، هو مبتدأ المعرفة بالنفس وبالكون، لذا لم يكن ليرى، من وجهته الشخصية، انه ينبغي أن يطلب شيئاً كي يُعطى له، فالذات الصغرى مفعمة بالذات الكونية، وهنا يكمن سر تنسّكه المحدث، الذي لم يكن ليتقصّده كإطار وجود، بقدر ما يمكن لنا أن نتقصّده في توصيفنا لسلوكه النبيل. كما كانت له رؤية مدهشة في النظر الى الموت، مفادها أن الروح نفسها تستدعيه إليها، كلما ازداد ضيقها بظلم وظلامة العالم من حولها، فتجتذب الألم والمرض والوهن الى آلتها الجسميّة، من أجل أن يكون ذلك كلّه سبباً لتخلّصها وخلاصها وخلوصها.

ولئن كان الخريف من عمر، أو فصول، أو جهد إنساني، مدعاة يأس وأسى ونذير انتهاء ويباب، فإنّه يبقى في شخص جود أبو صوّان مثلما في بعض تربة وشجر وماء ودفء وهواء، خدين ربيع نضير يستمر معه نمو وريقات على الغصون، التي يتساقط منها الورق الأصفر، لتبشّر بتبرعم جديد وثمر عتيد. ولئن كانت الثمرة، بعد أن تنضج، بصدد الإنفصال التدريجي رويداً رويداً الى أن تسقط، لإتمام دورة الحياة وتعاقب الفصول واستكمال دور الوعي في آفاق متتالية، فإن مثل الدكتور جود أبو صوّان، الذي دخل منتصف العقد الثامن من حياة نشطة ومفكّر فيها، مثل شجرة وارفة الظلال، وافرة الثمار، طيبة صلبة، لم تنحن لعواصف الدهر، وما أكثرها، بل بقيت شاهدة على وطن النجوم المتلألئة والتخوم السنيّة وإشعاع فكري يملأ المشرق العربي وهجا.

جود أبو صوان سنشتاق إليك صديقاً لا يتكرّر، كنت تجمع بين الرفقة والأبوّة والأخوّة، بين النصح والتعليم والتنوير، بين المودّة والحرص والتعاطف. جود أبو صوان سنفتقد إليك يراعاً لمّاعاً وكلمة شجاعة وفكراً مبدعاً، ومثقفاً راسخ الجذور في الأصالة، وفي توثيق عرى الإجتماع المزركش باللازوردي على متون المكان، والمتمازج في عطارة الحضارة كما الميرون، في سر من الأسرار، التي تستحق أن تقدَّس وتعلَّم، ذلك أنّه لبنان الوطن، الذي لم يكن ليفارق وجدانك المفعم بأُنس أثيل، فعلى ضفاف الرحيل نقول لك، وداعاً أيّها الناسك المُتَفرّد المشير المشيّد، المنير، لكأنّما في غيابك ارتكاسة فرقد من غسق شريد مديد، الى فضاءات الهدي على إيقاع مجيد سديد.

سيبقى منزلك، الذي عرفناه مزار نسكك المُتفرّد مضيئاً بوجود “الست جميلة” شريكتك ورفيقة دربك الوفيّة النقيّة، ومزداناً بقرر عين من أبناء لك وأحفاد نتوسّم فيهم جود المحتد وديمومة فيض نمير.

الأحد 11 تشرين الثاني 2020

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *