روما – طلال خريس وفكتوريا موسى – Bekaa.com – مع وقوع إيطاليا تحت وطأة كارثة الوباء كورونا غير المسبوق في التاريخ المعاصر، ومع تخلف الجيران الأوروبيين عن مد يد العون فعليا لها، ازدهرت في إيطاليا الدعوات المطالبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي من قبل أحزاب وتيارات لطالما كانت تدعو الى ذلك في برامجها الحزبية والانتخابية. ولكن هذه المرة لاقت طروحاتهم تأييدا من جمهور كبير شعر ان أوروبا أدارت له ظهرها وتركته يرزح تحت نير الوباء وحيدا.
فانطلقت الحكومة الإيطالية، في مواجهة كارثة كورونا، تصرف الأموال دون حسيب أو رقيب وتقر موازنات خاصة واحدة تلو الأخرى متحدية المعايير الأوروبية التي تفرض عليها موزانة تحت سقف محدد للتضخم لا ينبغي ان يصل إلى 3 بالمائة من الناتج المحلي.
وقد برزت نزعة التحدي هذه في رد وزير الخارجية لويجي دي مايو على سؤال حول الأموال الهائلة التي تصرفها إيطاليا باعتبارها تخرج عن المعايير والضوابط الاقتصادية الأوروبية حين أجاب: “لا يهم أذا قبلت المفوضية الأوروبية أو رفضت، فمصلحة الشعب الإيطالي تأتي أولا، وإذا كان أحد أفراد العائلة يواجه خطر الموت ألا يلجأ الأب للأقتراض من أجل انقاذ حياة ولده؟”
يقر المحللون الإيطاليون والأوروبيون بأن إيطاليا ستخرج من جائحة الكورونا بديون هائلة تضاف الى الدين العام الذي يفوق أصلا الناتج المحلي 130 بالمائة. فمن يحكم إيطاليا بات لا يبالي بالمعايير الاقتصادية الأوروبية القاسية ويتسلح باستياء الرأي العام، من سياسات الاتحاد والدول الأوروبية في مواجهة كورونا المستجد، ليقلب الطاولة على كافة القيود التي كانت تلزم إيطاليا وفي رأسها موازنة الحكومة السنوية التي ما زالت محل رفض كبير من الاتحاد لاحتوائها على عجز كبير في النمو ناتج عن الافراط في الصرف وتطالبه باجراءات تقشفية.
وبالرغم من تراجع الأوروبيين قليلا واقرار حزمة من المساعدات للدول الأوروبية المنكوبة، يتفاعل الكثير من الإيطاليين مع دعوة زعيم حزب الرابطة اليميني ماتيو سلفيني للتخلي عن الاتحاد الأوروبي وتمتين عرى الصداقة مع بلدان مثل روسيا والصين، خاصة بعد تجاهل الاتحاد الأوروبي مقترحات الحكومة الإيطالية بإنشاء صندوق ضمان أوروبي، أو إصدار ما يسمى “سندات فيروس كورونا” coronabonds، بهدف تمويل المبادرات التي ستتخذها الحكومات للتعامل مع حالة الطوارئ.
للتذكير منذ أواخر عام 2018 وإيطاليا في صراع مع المفوضية الأوروبية حول موضوع الالتزام بالمعايير المالية والاقتصادية. في بداية عام 2019 قال فالديس دومبروفسكيس نائب رئيس المفوضية الأوروبية، انه من المحتمل أن تواجه إيطاليا “إجراء تأديبيا” بسبب الديون المفرطة. وأوضح دومبروفسكيس أن مشروع ميزانية روما لسنة 2019 لم يلتزم بالقواعد المالية للاتحاد الأوروبي، “ما يجعل إيطاليا مهددة بإجراء تأديبي”. وذكر أن الحكومة الإيطالية الجديدة بقيادة حركة خمس نجوم و الرابطة ( انذاك) قدمت مشروع ميزانية جديد لسنة 2019، لكنه يتضمن نفس توقعات النمو ونسبة العجز، والتي سبق أن رفضها الجهاز التنفيذي الأوروبي.
قبل جائحة فيروس كورونا أي قبل نهاية شهر شباط الماضي كانت المفوضية الأوروبية توجه الانذار تلو الآخر لإيطاليا مهددة بفرض غرامات كبيرة عليها مع خشية أوروبا فعلا من خروج إيطاليا من الاتحاد وهي تمثل ثالث أكبر اقتصاد في السوق الأوروبية. وفي هذا الصدد كتبت صحيفة لا ريبوبليكا :” إيطاليا تتحدى فعلا القواعد المالية بينما تدفع ألمانيا المفوضية الأوروبية لاتخاذ إجراء ضد إيطاليا بسبب الديون المفرطة، وتقول ان على جميع الدول احترام ميثاق الاستقرار المالي.”
استغلت ايطاليا أزمة كورونا لتضع الاتحاد الأوروبي في الزاوية. فقد دفعته للتنازل أمام مطالبها يوم 3 نيسان الماضي حين أعرب نائب رئيس المفوضية، فالديس دومبروفسكيس، عن استعداد الجهاز التنفيذي الاوروبي لدعم خيار طرح سندات coronabonds لمساعدة اقتصاد البلدان المتضررة من حالة الطوارئ الناجمة عن فيروس كورونا المستجد، وهو المطلب الإيطالي.
كما دعا رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد ساسولي مصرف الاستثمار الأوروبي إلى تبني إجراءات شجاعة في مواجهة تفشي وباء كوفيد 19. وأشار ساسولي في تصريحات نقلت عنه قبل اجتماع مجلس إدارة مصرف الاستثمار الأوروبي، إلى أن مواجهة تفشي الوباء تحتاج لحشد مزيد من الجهود. وتابع: “يجب البحث عن آلية التآزر بين مصرف الاستثمار الأوروبي والمصارف الوطنية والتجارية والمؤسسات الأوروبية والحكومات لتقديم المساعدة للقطاعات والأعمال الأكثر تأثراً بانتشار الوباء”. وأشاد بمصرف الاستثمار الأوروبي الذي كان أعلن سابقاً عن تعبئة 40 مليار يورو لمساعدة الشركات المتوسطة والصغيرة المتأثرة بانتشار كوفيد 19.
اذن إيطاليا الجريحة تنتقل من موقع المتَّهم إلى موقع المتهِم وتفرض على الاتحاد الأوروبي التنازلات. ولكن كيف يمكن لإيطاليا أن تتكيف مع المعايير المالية الأوروبية الصارمة؟ هناك من يغالي بالرأي مثل زعيمة منظمة أخوة إيطاليا، القومية اليمينية المحافظة، جورجيا ميلوني التي تعتبر أنه من السهل جدا أن يوزع الدين الإيطالي على جميع الدول الأعضاء وأذا تعثر الأمر يذهب كل منا في طريقه!!
ولكن يبقى سؤال أساسي يشكل تحديا أمام أصحاب هذه النزعات “الانفصالية” عن الاتحاد الأوروبي والذين وجدوا في تصرّف بعض الدول الأوروبية وخاصة المانيا مناسبة للذهاب بعيدا في دعواتهم هذه مضاف اليها رغبتهم في التفلت من القيود الاقتصادية التي يفرضها الاتحاد، والتهرب من دفع الديون المتعاظمة: ما هي خططهم الاقتصادية والمالية لإيطاليا ما بعد كورونا؟؟ وخاصة ما هي خططهم لإيطاليا ما بعد الانفصال عن الاتحاد الاوروبي، إن كانوا جديين في دعوتهم الشعبوية هذه؟؟
على أي حال يرى محللون ان الاتحاد الاوروبي بعد كورونا قد يكون أكثر هشاشة من ايطاليا، فالتصدع طرق كل نوافذه وأبوابه، ولا أحد يستطيع اليوم التكهن بمآلات ومسارات الازمة الاخلاقية العميقة التي كشفها كوفيد 19 وانعكاسها على دوله بالمفرق وعلى كيانه بالجملة.
الخميس 9 نيسان 2020