قصة عبد النبي العفي
خاص-Bekaa.com
حجر الحبلى المستلقي في المقلع الروماني جنوب غربي هياكل بعلبك، كان أكبر حجر منحوت في العالم إلى أن تم التنقيب عن حجر ثان بجانبه عام 2014. وزنه ألف طن، طوله 21 مترا ونصف، عرضه خمسة أمتار وارتفاعه أربعة أمتار. كان مقدّرا لحجر الحبلى أن ينضم الى الأحجار الثلاثة التي شكلت قاعدة معبد جوبيتر داخل ما يعرف اليوم بقلعة بعلبك، ولكن يبدو أن العمّال (الرومان) عجزوا عن جرّه إلى المعبد (مسافة 800 متر بين المقلع والهياكل) فبقي عالقا في الأرض. ويعتقد آخرون أن السبب الحقيقي لعدم نقله الى الهياكل يعود الى نوعيته التي لم تتناسب مع نوعية الأحجار المستعملة هناك. وفي حقبة ما بعد الرومان تحوّل الموقع إلى مدافن للبيزنطيين.
اليوم يعلم معظمنا ذلك. وبحثٌ سريع في صفحات التاريخ والآثار على الانترنت سيطلعنا على معلومات وصور مفيدة أيضاً.. ولكن للحجر قصّة مثيرة أخرى تعرفها قلة!
فعلى الرغم من قرب الموقع بضعة مئات الأمتار من هياكل بعلبك، قُبلة السياحة والآثار، إلا أنه تعرّض مع الزمن لإهمال شديد أدى لتحوّله الى مكبّ للنفايات والمهملات بكل ما للكلمة من معنى. فطواه النسيان ردحاً طويلا إلى أن نجح رجل واحد “بإيقاظ” الحجر وتنظيف المكان وإعادته الى دائرة الاهتمام.
إنها قصة رجل جاور الحجر و”نذر نفسه” للاهتمام
به بشغف قلّ نظيره. حتى لنستطيع القول ان رجلا بمفرده وبإمكانياته المتواضعة جداً
ولكن بتصميم كبير استطاع القيام بما تقوم به وزارات ومؤسسات وجمعيات.
من هو هذا الرجل؟
إنه ابن بعلبك، الرقيب المتقاعد في الجيش اللبناني عبد النبي العفي.
ولطالما وقف “أبو عباس” حزينا كلما مرّ بالمكان، ولا يبعد عن مسكنه سوى بضع مئات من الأمتار، وهو يرى أكبر حجر منحوت في العالم مُلقى هكذا وسط الخراب من غير اكتراث. فلم يستسلم وانتفض وعقد العزم على تغيير هذا الواقع المزري. نجح بالحصول على إذن حكومي بتنظيف الموقع. كان ذلك عام 1991. عام 1993 قام بمبادرة فردية على نفقته الخاصة واستأجر بموجب قرض مصرفي جرافة وشاحنة وبدأ أعمال التنظيف وإزالة النفايات المتراكمة. كان ما يزال عسكرياً في الجيش اللبناني فكرّس مأذونياته (عطلاته) للعمل في الموقع. ولم تزده سخريات الأقربون والأبعدون واعتباره “مجنوناً يهتم لمجرّد حجر” الا عزماً وتصميماً. استطاع الحصول على تكليف من رئيس أساقفة بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك المطران كيرلس سليم بسترس لحراسة أراضي الوقف التي اكتشف فيها الحبلى ومدافن مار شربل المجاورة، فتمكّن بذلك من البقاء “رسمياً” في المكان وحماية الموقعين ومنع السكان من رمي المهملات والإعتداء على الآثار.
لم يكتف العفي بذلك بل واصل عمله وأنار حجر الحبلى وزرع المكان بالأشجار والأزهار، وأقام كشكاً عند المدخل ليستقبل الزوار ويشرح لهم أهمية المكان. فتحوّل الكشك مع الوقت الى استراحة سياحية لطيفة يمكن للزائر الإطلاع فيها على مجموعة كبيرة من الصور التقطها عبد النبي بنفسه لمختلف مراحل إعادة إحياء الحجر الأكبر في العالم. وحيث يمكن للزوار تسجيل كلماتهم وانطباعاتهم بكل اللغات في دفتر سمّاه “السجل الذهبي” وضعه لهذه الغاية. يعرض العفي ثماني سجلات حتى الآن يفخر بأنه حافظها وحارسها الأمين.
العفي-الظاهرة
يشكل عبد النبي حالة فريدة قلّ نظيرُها. ديناميكيٌ وفكاهي. والابتسامة لا تفارق وجهه. يقضي يومه في الإستراحة حيث يستقبل زوار الحجر بحفاوة بعلبكية موصوفة. يعتبر نفسه الأب الروحي للمقلع الروماني. يقدّم القهوة والمياه مجانا للزوار ليستمتعوا ويصغوا بانتباه الى شرحه وملاحظاته. يقول لbekaa.com: سعادتي القصوى أني جعلت الحجر يتكلم بكل اللغات فكل الثقافات دوّنت لغاتها في السجل الذهبي أمامي. الله رزقني بالحجرين. إنهما ولداي أيضا. ولدي أفضل جيران في إشارة إلى المقابر حيث الصمت والخشوع والاحترام مسيطرا كل الوقت.
بحماس كبير يتابع: “أجلبوا أصدقاءكم واستمتعوا بزيارة الحجرين والمدافن الرومانية واجعلوا الكل يعلم أن في بعلبك ليس فقط الهياكل الرائعة وإنما أيضا أكبرَ حجري بناء معروفَيْن في العالم”.
ولقد أُدرج إسم عبد النبي العفي في كتاب التاريخ للصف الخامس إبتدائي.
إحياء الميت من تحت التراب- التنقيب عن الحجر الثاني
أصبح المكان بعد تنظيفه موقعا مميزا جاذبا للسياح وعلماء الآثار، وفي عام 2014 كشفت أعمال التنقيب تحت إشراف الدكتورة في الجامعة اللبنانية جنين عبد المسيح عن حجر ميغاليتي ثان بجانب حجر الحبلى وعدد من الغرف المدفنية المحفورة في الصخر على شكل “الأركوسولي”. ويبلغ عدد الغرف التي تمّ العثور عليها 15 مدفناً تعود جميعها للحقبة الرومانية-البيزنطية. علماً أنّ جميع الغرف المدفنية قد تعرضت للسرقة في فترات سابقة.
الحجر الجديد الذي اكتشف في محاذاة الحجر السابق من الجهة الشمالية، بلغ طوله 19.60 متراً، فيما بلغ عرضه 6 أمتار وارتفاعه خمسة أمتار ونصف وقدّر وزنه بأكثر من 1600 طن. (صورة)
يقول العفي: لا يمكن أن يكون الحجر الجديد إبن حجر الحبلى لأنه ولد أكبر منه. إنه الأخت إنه “جنين الحجر” تيمنا بالدكتورة. فهو لا يتوقف عن شكر الدكتورة جنين على عملها البحثي الدؤوب والذي شمل أيضا بناء خيمة ومقاعد مخصصة لإستراحة الزوار وحمامات.
المناسبات الثقافية
يشهد الموقع أحيانا حفلات فنية وشعرية. وفي العام 1999 استغل العفي زيارة ممثلين من المركز الثقافي الفرنسي ليقترح تنظيم حفلة موسيقية. وبالفعل استجاب الفرنسيون واستمتع سكان بعلبك والزوار في صيف ذلك العالم بعرض الفرقة الفولوكلورية الفرنسيةLa Fontaine
بحسرة يتذكرّ أبو عباس ذلك فهذا الموقع “يستأهل من الدولة ومن البلدية ومن المعنيين بالآثار والسياحة ومن وزارة الثقافة إهتماماً ورعاية يفتقدها اليوم بشكل كامل تقريبا”.
ختاماً هذا الرجل الذي يُطلق عليه لقب “الناطق باسم الحجر” وأحياناً “مجنون الحجر”، هذه الشخصية المثيرة للإعجاب التي استطاعت حماية إحدى معجزات بعلبك والرومان وإنقاذها من تحت أنقاض النفايات، ألا يستحقّ تكريماً خاصاً؟!
عسى أن يطيل الله بعمر عبد النبي العفي فلولا جهوده لبقي كل شيء تحت الأوساخ. وعسى أن يحظى المكان بالمزيد من الاهتمام الحكومي والبلدي والثقافي ويدرج يوما ضمن قائمة التراث العالمي.
فكتوريا موسى Bekaa.com