انتقد الباحث البارز في “مجلس العلاقات الخارجية” ستيفن كوك الطبقة السياسية اللبنانية التي تعاني من “إفلاس مالي وأخلاقي” والتي تحارب الإصلاح من أجل الحفاظ على مكتسباتها في ظل الانهيار الذي يشهده لبنان.
وكتب في مجلة “فورين بوليسي” مقالاً تحت عنوان “لبنان الذي نعرفه يموت” مشيراً إلى أنّ البلاد وصلت إلى أزمتها الحالية بفعل نظامها وسلوك حكامها، في تناقض مع ما يحصل في اليمن وسوريا والعراق وليبيا. شهدت تلك الدول انتفاضات وحروباً أهلية وتدخلات خارجية وحروباً إقليمية بالوكالة.
يذكر كوك أن لبنان لا يتمتع بالسيادة الكاملة وهو يشكل حلبة للتنافس الإقليمي لكن هذا الواقع ليس السبب المباشر لمشاكل الدولة الحالية كما يستدرك. فما يحصل في لبنان هو دخول نظام ما بعد الحرب دوامة الموت. ازدهرت الطبقة السياسية بفعل سنوات من الفساد والخلل الوظيفيّ، لكنّها وقعت في فخهما مؤخراً، بعدما أفلست تلك الطبقة البلاد خلال هذا المسار.
تسلسل الأزمة
أشار كوك إلى أنّ ملامح الأزمة الأولى ظهرت في بداية 2019 حين أصدر البنك المركزي تعميماً يقضي باستلام التحويلات المالية من الخارج عبر المؤسسات المالية غير المصرفية بالليرة اللبنانية. بعدها فرض قانون قانون العرض والطلب نفسه مما خلق سوقاً سوداء.
لاحقاً، خفّضت وكالة “فيتش” تصنيف لبنان الائتماني من B- إلى CCC. وفي أيلول 2019، تمت تصفية “جمّال تراست بنك” بعد استهدافه بالعقوبات الأميركيّة لعلاقته ب “حزب الله”. لم يكن هذا البنك لاعباً ضخماً لكنّ إغلاقه جعل الثقة بقطاع الخدمات المالية تتعرض للتآكل بشكل أكبر.
بعد أسابيع قليلة، فرضت الحكومة ضريبة يومية على اتصالات “واتساب” بقيمة 20 سنتاً، الأمر الذي أطلق تظاهرات شعبية. منذ ذلك الحين، ظهرت جميع المشاكل الاقتصادية إلى العلن.
يتابع كوك توصيفه ذاكراً أنّ لبنان لا ينتج الكثير ويستورد 80% من حاجاته بما فيها الغذاء والفيول. اقتصاده مبنيّ على القطاع العقاري والمصارف والتحويلات من أبنائه المغتربين. عرضت المصارف فوائد مرتفعة لجذب الودائع بالدولار ثمّ قامت بإقراضها إلى الحكومة.
وأوضح أنّ هذا الأسلوب لم يكن عظيماً لإدارة نظام مالي، لكنه كان يقوم بالواجب طالما استمر تدفق الدولار. لكن عندما انخفضت التدفقات المالية وعجزت الحكومة عن سداد ديونها للبنوك انهار النظام. في آذار، تخلف لبنان عن سداد ديونه مما أظهر أن “فيتش” كانت محقة في تصنيفها.
فقدت الليرة 85% من قيمتها وفاقم فيروس “كورونا” الصعاب. أغلق لبنان الاقتصاد مثل معظم دول العالم لكسر سلسلة العدوى وإنقاذ حياة الناس، لكن البلاد لا تملك شبكة أمان اجتماعي فواجه العاطلون عن العمل والذين تتزايد أعدادهم بشكل كبير تضخماً ساحقاً.
أكثر من نصف اللبنانيين يعيشون اليوم في حالة فقر أو عوز بينما ازداد غياب الأمن الغذائي وأصبحت المقايضة طريقة لعيش البعض. ويواجه لبنان تغذية شحيحة بالتيار الكهربائي بينما يهاجر من يستطيع منهم إلى كندا وأوروبا. وصل اليأس إلى درجة انتحار البعض في الشوارع خلال فصل الصيف.
ما الذي تفعله الحكومة لمواجهة الأزمة؟
رد الحكومة أتى عبر محاربة الإصلاح والدخول في شجار مع البرلمان ومقاومة صندوق النقد الدولي والتودد إلى الصين، بحسب كوك. تعيش الحكومة على أمل بأن لبنان الصغير أكبر من أن يفشل، لكن الأمر غير صحيح بالنسبة إلى تحليل الباحث نفسه.
وأشاد بمهنية المفاوضين في صندوق النقد الدولي لمثابرتهم على محاولة إنقاذ اللبنانيين خصوصاً مع عدم وجود الكثير من الحماسة الدولية لانتشال الحكومة من الفوضى. زار وزير الخارجية الفرنسي بيروت فقط من أجل تعزيز رسالة جوهرية الإصلاح. في واشنطن، أولئك الذين لا يريدون مساعدة الحكومة لاختراقها من “حزب الله” استطاعوا فرض رأيهم لغاية اليوم. لا يميل السعوديون والإماراتيون للمساعدة ولم يتدخل القطريون.
هذا يترك الصين الراعي الوحيد المحتمل للبنان، لكن إذا وقّعت الحكومة اتفاقاً مع بيجينغ فهذا يعني أن لا عودة إلى الوراء وفقاً لكوك. بسبب العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة والصين وبسبب نفوذ واشنطن في صندوق النقد الدولي، على المسؤولين في بيروت ألا يتوقعوا الكثير من الصندوق في حال قبلوا بالاتفاق الصيني. في هذه الأثناء، يصعب تحمل تبادل اللوم ضمن الطبقة السياسية في وقت تنهار فيه البلاد حولها.
مسألة وجودية للطبقة السياسية
تطرق كوك إلى النظام الطائفي الذي شكّل إرث الاستعمار الفرنسي وقد سعى إلى الحفاظ على السلم الاجتماعي في دولة تعاني من انقسامات طائفية عدة. حتى بعد الحرب الأهلية، عاد لبنان إلى هذه المعادلة. وشكّك كوك بأن هذا النظام هو الذي حافظ على السلام الداخلي في الآونة الأخيرة. ارتبط الأمر أكثر بضم الحكومة لمجموعة “حزب الله” الشيعية الطائفية المسلحة إليها.
وحتى مع افتراض أنّ الجهد اللبناني لخلق بعض الاستقرار من خلال ما يشبه توزيعاً منظماً ومتوافقاً عليه للسلطة على الطوائف قد نجح، فقد غذى أيضاً الفساد بشكل كبير، وقد استفاد منه المسؤولون والبيروقراطيون وأصحاب المصالح على حساب الخير العام. يجب على المتابعين ألا يتفاجأوا بالبنية التحتية الرثة والخدمات الحكومية التي تكاد تكون غير موجودة. “هذا ما تبدو عليه طبقة سياسية متعجرفة ومُهدِرة” للموارد.
أدرك المتظاهرون أن لبنان يحتاج إلى نظام جديد كلياً. كان صعباً ألا يُعجَب المراقبون بتصميم وإبداع اللبنانيين الذين سعوا إلى التغيير. لكنهم ظلوا مثقلين بطبقة سياسية ترى الحفاظ على النظام الحالي مسألة وجودية. يعرّض هذا الواقع الدولة لمعاناة مطولة بما أنّ زعماءها يحاولون بشكل يائس مناورة إفلاسهم المالي والأخلاقي. وختم كوك مقاله كاتباً: “هذا ما يبدو عليه الانهيار”.
أضغط هنا لقراءة المقال كاملا بالانكليزية
الجمعة 31 تموز 2020 موقع النهار