مروان صقر – موقع LCPS – على هامش البحث في مشروع القانون المعجل المُسمى ” تنظيم وضع ضوابط استثنائية مؤقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية” – أي ما يُعرف بقانون “الكابيتال كونترول”- الذي تُعده الحكومة، تبرز الى الواجهة مسألة مدى توافق أحكام هذا المشروع مع الإتفاقيات الدولية وموجبات لبنان في القانون الدولي وهي مسألة أكثر تعقيداً مما قد يبدو. وقد حاول واضعو المشروع معالجتها في المادة الثانية منه بإشارة مقتضبة الى وجوب التقيد بأحكام الإتفاقيات الدولية، إلا أن هذه الإشارة، مع الآسف، لا تحل المشكلة.
فالموضوع لا يكمن فقط في التعارض بين مشروع القانون واتفاقية صندوق النقد الدولي وبعض اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي أبرمها، بل يتعداه أيضاً الى التعارض بين إتفاقيات وأنظمة صندوق النقد الدولي ذاتها من جهة وبين كل من مشروع القانون وإتفاقيات الاستثمار الثنائية التي أبرمها لبنان، من جهة أخرى.
إتفاقية وقواعد صندوق النقد الدولي
من جهة أولى، صحيح أن إتفاقية صندوق النقد الدولي تُكرس حرية تحويل رؤوس الأموال في مادتها الثامنة، إلا أن مجلس صندوق النقد قد أصدر عام 1960 قراراً تفسيرياً بالإستناد الى المادتين 8 و14 من الإتفاقية يعترف للدول الأعضاء بحق وضع قيود على حرية التحويلات في حال حصول إختلال كبير في ميزان المدفوعات لهذه الدول وذلك بعد التشاور مع مجلس الصندوق وموافقته. (1)
كذلك، فإن القواعد والانظمة (IMF Rules and Regulations) المُكملة لإتفاقية صندوق النقد، تؤكد هذه القاعدة في الفقرة (L- Capital Transfers) وتوضح اجراءات التشاورمع الصندوق والاستحصال على موافقته في حال تعرض الدولة العضو لخروج حاد للعملات الاجنبية منها. (2)
كما أصدر الصندوق موقفاً مبدئياً في تقرير بشكل ورقة سياسات Policy Paper عام 2012 من هذه المسألة، يؤكد فيها على ما تقدم ويشرح فيها بالتفصيل موقفه المؤسسي من مسألة حرية التحويلات الى الخارج وشروط وضع القيود عليها من الدول الأعضاء وحدود سلطة الدول في هذا المجال . (3)
فيقتضي بالتالي على الحكومة اللبنانية التقيد بالتزاماتها الدولية تجاه صندوق النقد الدولي، لاسيما أن لبنان في أمس الحاجة الى العلاقة الجيدة بالصندوق في هذه المرحلة، علماً أن للصندوق سلطة فرض عقوبات مختلفة المستويات على أعضائه الذين يخالفون أحكام نصوصه وأنظمته.(4)
إلا إن تطور موقف صندوق النقد الدولي من مسألة القيود التي قد تضعها الدول على التحويلات الى الخارج، لا يتفق بالضرورة مع أحكام الإتفاقيات الثنائية للإستثمار التي أبرمتها الدول ومنها لبنان.
اتفاقيات الاستثمار الثنائية
إن معاهدات أو اتفاقيات الاستثمار الثنائية (Bilateral Investment Treaties -BITs) هي اتفاقيات دولية بين دولتين بشأن شروط الاستثمار الأجنبي الخاص من قبل مواطنين من دولة واحدة في دولة أخرى. وتهدف مثل هذه الإتفاقيات لتشجيع الاستثمارالأجنبي المباشر في الدول المضيفة من خلال ضمان معايير معاملة المستثمرين الأجانب، بما في ذلك التعويض عن نزع ملكية الاستثمارات الأجنبية، الحماية ضد المعاملة غير العادلة وغير المنصفة للمستثمرين الأجانب ومن ضمن ذلك حرية تحويل الأموال للخارج، والحماية من المعاملة التمييزية وانعدام الحماية والأمن الكاملين وقد أبرم لبنان منها 54 إتفاقية.
فيما يتعلق بموجب الدول عدم وضع عوائق على حرية التحويلات للمستثمرين الاجانب المستفيدين من تلك الإتفاقيات، يمكن تقسيم الأحكام التي ينص عليها هذا النوع من الاتفاقيات، من ناحية مبدئية، ألى أربع فئات (مع الإشارة هنا الى، أنه لم تجر مراجعة تفصيلية للإتفاقيات الـ54 الموقعة من الدولة اللبنانية لغايات هذه الورقة): (5)
أ. منها ما ينص مباشرة على حرية التحويل للمستثمرالأجنبي دون إمكانية وضع أي ضوابط من طرف الدولة المضيفة (مثلاً، الإتفاقية بين لبنان وفرنسا)؛
ب. وأخرى لا تنص على ذلك مباشرة إنما بصورة غير مباشرة من خلال بنود الدولة الأكثر رعاية Most Favoured Nation (MFN) أو بنود المعاملة العادلة والمنصفة Fair and Equitable Treatment (FET). وهذان البندان موجودان في معظم اتفاقيات الاستثمار الثنائية بإعتبارهما تعكسان أهم المبادىء الاساسية في القانون العرفي الدولي International Customary Law؛
ج. كما أن هنالك فئة من الاتفاقيات الثنائية (وهي الأحدث تاريخاً) تتضمن ضوابط لحرية التحويل تتوافق مع موقف صندوق النقد المذكورة أعلاه؛
د. فئة أخيرة لا تتضمن أية أحكام تتعلق بهذا الموضوع.
وبند الدولــة الأكثر رعايــة هــو شرط يــرد في معاهــدة توافق دولة ما بموجبـه علـى أن تمـنح الشـريك المتعاقـد الآخـر معاملـة لا تكــون أقــل رعاية مــن تلــك الــتي تمنحهــا لــدول أخــرى أو دول ثالثة. (6) وفي مجــال اتفاقــيات الاســتثمار، يتمتع بند الدولـــة الأكثر رعايـــة بمكـــانة خاصــة، إذ يُتيح للمستثمرالأجنبي أن يحــتج بهذا البند الــوارد في اتفـاق الاسـتثمار الثنـائي المعقـود بـين دولته ولبنان للمطالبـة بالحصول على المعاملة الأفضل التي يوفرها اتفاق الاستثمار المعقود بــين لبنان ودولة أخرى لا علاقة لهذا المستثمر بها. وهذا البند تتضمنه معظم (أن لم يكن جميع) إتفاقيات الاستثمار التي تبرمها الدول ومن بينها لبنان. (7) وقد أقر الإجتهاد الدولي في قضايا تحكيم الاستثمار إمكانية “إستيراد” بنود حمائية غير موجودة في إتفاقية ثنائية معينة من إتفاقيات ثنائية أخرى تحتويها وذلك بالإستناد الى بنود الدولة الأكثر رعاية (MFN clauses).(8) وعليه، فإن ورود نص خاص يُلزم الدولة اللبنانية بعدم فرض قيود على التحويلات المالية التي يجريها المستثمرون الفرنسيون في لبنان مثلاً (المادة 5 من إتقاقية الإستثمار اللبنانية الفرنسية)، يُتيح للمستثمرين من الدول الآخرى ألتي أبرمت إتفاقيات إستثمار ثنائية مع لبنان لا تتضمن نصاً حول حرية التحويلات، أن يطلبوا الإستفادة من البند الوارد بهذا الصدد في الإتفاقية مع فرنسا، أي أن يُصار الى “إستيراد” هذه الضمانة من الإتفاقية اللبنانية الفرنسية ليصار الى تطبيقها على حالتهم أمام الهيئات التحكيمية التي قد تنظر في نزاعاتهم مع الدولة اللبنانية!
مشروع القانون بين إتفاقيات صندوق النقد والإتفاقيات الثنائية
على ضوء ما تقدم، فأنه من الضروري، قبل السير بإجراءات اقرار قانون الكابيتال كونترول، القيام بالآتي:
- التشاور والتوافق مع صندوق النقد الدولي على طبيعة القيود والإجراءات المُقترحة في مشروع القانون؛
- مراجعة إتفاقيات الإستثمارالثنائية الـ 54 التي أبرمها لبنان، لمعرفة ما هي الأحكام التي تنص عليها لجهة حرية تحويل الأموال وما إذا كانت تلك الاتفاقيات متوافقة مع قرارات وقواعد صندوق النقد أم لا. وذلك لتقييم مدى المخاطر القانونية التي قد تنتج من خلال إقرار القانون مقارنة مع النتائج الايجابية المتوخاة منه.
أما في حال عدم توافق كل أو بعض إتفاقيات الاستثمار الثنائية المبرمة من الدولة اللبنانية مع موقف صندوق النقد من إمكانية وضع قيود على التحويلات في حالات إستثنائية، فإن ذلك سيطرح مشكلة قانونية إضافية للبنان. فإتفاقية وأنظمة صندوق النقد الدولي لا يمكنها قانوناً أن تُعدل أو تُعطل أحكام إتفاقيات الاستثمار الثنائية وهذا بإعتراف صندوق النقد نفسه في تقريره عام 2012 المشار اليه أعلاه فتبقى هذه الإتفاقيات الثنائية قائمة ومستوجبة التطبيق حتى وإن كانت تختلف مع موقف الصندوق في مسألة التحويلات. (9)
وعليه، سيؤدي تطبيق تلك الإتفاقيات الثنائية الى خلق استثناءات إضافية للقيود على التحويلات المقترحة في مشروع القانون، لمصلحة مستثمري بعض الدول ( الذين يستوفون شروط وصف “المستثمر” وتستوفي أنشطتهم الإقتصادية مفهوم ” الاستثمار” في القانون الدولي (10)) الذين سيستفيدون من حرية تحيول أموالهم الى الخارج دون الالتزام بأية قيود وبالتالي، معاملتهم بصورة تقضيلية بالنسبة للبنانيين.
أما في حال عدم التزام لبنان بموجباته الدولية وتطبيق القيود على تحويلات المستثمرين الأجانب المعنيين، فأن ذلك قد يفتح الباب واسعاً لمقاضاته أمام هيئات التحكيم الدولية، لاسيما المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار لدى البنك الدولي(ICSID) .
هذا مع الاشارة الى أن إتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969 لا تعطي حلاً واضحاً لمسألة التعارض بين إتفاقية صندوق النقد والإتفاقيات الثنائية تاركةً بذلك الأمر للسوابق القضائية والتحكيمية. أما الاجتهاد التحكيمي الدولي (خاصة في ظل قواعد الـ ICSID) فهو منقسم وغير ثابت في هذا الموضوع، بحيث قضت بعض الهيئات التحكيمية مثلاً بحق الدول بفرض قيود مؤقتة على التحويلات في حال اختلال ميزان مدفوعاتها خلافاً لأحكام الاتفاقيات الثنائية ( يراجع مثلاًالقرارات الصادرة في قضايا Sempra v Argentina (11) وEnron v Argentina (12)- مراجعات الإبطال -) مستندة في ذلك الى قاعدة الضرورة في القانون الدولي وحق الدولة في التنظيم في هذه الحالة (Right to regulate)، بينما إتخذت هيئات آخرى موقفاً مغايراً يقضي بمسؤولية الدولة عن خرق اتفاقيات الاستثمار في حال تطبيق الـكابيتال كونترول على المستثمرين الاجانب خلافاً لأحكام تلك الاتفاقيات ( مثلاً القرار الصادرفي قضية Suez and Vivendi v Argentina(13)).
ختاماً، إن المخاطر القانونية التي قد تترتب على لبنان من وجهة نظر القانون الدولي، قد تكون غير قليلة في حال التسرع في إقرار القانون قبل معالجة هاتين المسألتين، لا سيما:
– التوافق مع صندوق النقد الدولي على القيود والإجراءات المُراد إقرارها، لتفادي أي إختلال مع الصندوق في هذه المرحلة البالغة الدقة.
– إجراء مسح شامل لإتفاقيات الاستثمار الثنائية التي أبرمها لبنان، لمعرفة فئاتها ومن هي الجنسيات المستفيدة من كل فئة وحجم الاستثمارات لكل من الجنسيات المعنية بهذه الاتفاقيات، للتمكن من تقدير مدى المخاطر القانونية التي قد يرتبها القانون الجديد مقارنة مع النتائج المتوخاة منه.
لا بد هنا من الإعتراف أن إستحالة تعديل الإتفاقيات الدولية من طرف واحد، سيحول دون إمكانية تفادي تقديم المستثمرين الأجانب المستفيدين من احكام الإتفاقيات الثنائية لدعاوى ضد لبنان في حال وضع قيود قانونية على تحويلاتهم. لكن إجراء المسح المشار اليه اعلاه يُتيح، على الأقل، إجراء تقييم للنتائج المالية المتوقعة لهذه الدعاوى. وفي حال تبين أن النتائج المالية قد تكون كبيرة، الاّ يقتضي عندها البحث بإعتماد طرق أخرى لتنظيم علاقة المصارف مع المودعين – وهو أمر ضروري – غير إصدارقانون قد يُرتب مسؤوليات مالية إضافية على الدولة اللبنانية؟
وأخيراً ودائماً يُطرح السؤال: هل تمت دراسة الأثر الاقتصادي (impact study) لهذا المشروع الهام من قبل إختصاصيين في ما ما يُعرف بـالتحليل الإقتصادي للقانون Law and Economics قبل وضعه والدفع بإتجاه اقراره؟
مَروان صَقر, محامٍ متخصص في القانون الدولي التجاري والإقتصادي ومُحكم دولي معتمد
المصدر: موقع المركز اللبناني للدراسات LCPS
الاثنين 23 آذار 2020