نشرت جمعية مصارف لبنان على موقعها، تحت عنوان “عن القرش الأبيض واليوم الأسود”، بيانا ردت فيه على الاتهامات التي تطاولها وفصلت فيه أسباب تعثر المصارف وحملت السلطة السياسية والحكومات المتعاقبة المسؤولية عن ذلك. كما تضمن البيان رؤيتها للحل والاولويات. ورداً على وضع اليد على القطاع تحت حجة “تجريمه لأنه أقرض الدولة وهدر حقوق المودعين” (..) طرحت الجمعية تقديم مؤسسات عامة مربحة كضمانات للمصارف!
وجاء في البيان:
“يحتّم الواجب على المصارف اليوم مصارحة المودعين بالأسباب الأساسية لأزمة السيولة وطمأنتهم على مستقبل ودائعهم، والتأكيد على التمسّك بقطاعٍ خاص حرّ مكفول في الدستور اللبناني كشرطٍ أوّل لنهضة لبنان مجدّداً.
بدايةً، تعتذر المصارف على تقطير حقوق المودعين في استيفاء ودائعهم منذ خمسة أشهر وهم في أمسّ الحاجة، ويؤسفها شعور الكثير المبرّر بأنّه يستجدي حقًّا له من مصرفه، تسبّب به عجز الدولة عن دفع ديونها.
كما تعتذر المصارف لأنها أقرضت الدولة لدعم تطبيق إصلاحات بنيوية في القطاع العام تعزيزاً لقدرات القطاع الخاص ولرفع مستوى معيشة المواطن عبر فرص العمل والنمو. ولأنها اعتقدت ان الحكومات المتعاقبة، التي تعهدت مراراً وتكراراً بالإصلاح، سوف تتحمل مسؤولياتها تجاه المواطن يوماً ما.
ها قد داهمنا يومٌ عسير وجد فيه المواطن دولته مديونة وعاجزة عن السداد، وهو عاجز عن الوصول إلى قرشه الأبيض في يومه الأكثر سواداً منذ عقود.
فــي الــمـســـؤولـيـــة
تدّعي السلطة السياسية أن أرباح المصارف ساهمت في إهدار المال العام، والحقيقة أن المصارف قد استثمرت على مدى ثلاثة عقود من الزمن أكثر من ٧٥٪ من أرباحها لتقوية رساميلها في هذا القطاع الذي كان العمود الفقري لتنمية قطاعات التجارة والصناعة والسياحة والسكن كل هذه الفترة.
كما حرّضت السلطة على إظهار المصارف بغير صورتها وواقعها الإيجابيين متهمة إياها بالمراباة والفوائد المرتفعة، مع أن القاصي والداني يعرف أن الفوائد المصرفيّة تنخفض على المودع والمستدين أيام الرخاء السياسي كما ترتفع كلما فُقد الاستقرار السياسي الداخلي وكثرت التجاذبات وزاد ضجيج مبارزات الصراخ الفارغة.
الحقيقة هي أن السلطة السياسية ومن خلال الحكومات المتعاقبة هي من أساءت استعمال أموال المصارف ومن ضمنها الودائع، وبدّدت هذه الأموال. وتحاول اليوم، بعد أن قررت التهرّب من مسؤولياتها من خلال عجز الدولة عن السداد تجريم من أقرضها لهدر حقوق المودعين.
لو لم تتحمل المصارف بمفردها مسؤولية الاستقرار النقدي والمالي والاقتصادي والاجتماعي على مدى ثلاثة عقود، لما تمكّن الوطن من الاستمرار حتّى اليوم.
لقد استطاع القطاع كسب ثقة المودعين اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، والعرب والأجانب من حول العالم بالرغم من تراجع حجم الاقتصاد اللبناني وفي ظل منافسة شديدة عربية وأجنبية على استقطاب رؤوس الاموال. والأهم أنه استطاع بقدراته الذاتية، وبالرغم من التردّي المستمر للأوضاع السياسية في لبنان، استقطاب الاستثمارات الوطنيّة والأجنبية وتأمين السيولة للقطاع الخاص وللدولة ولمستلزمات المواطن على مدى عقود.
فــي الأولــويـــات
إن الأولويّة هي لمعالجة أزمة السيولة الحادة التي يشهدها لبنان وبصورة فوريّة من خلال إجراءات لاستعادة الثقة، ما سيحتّم المحاسبة عاجلاً أم آجلاً. محاسبة الأصل لا الفرع فقط، استناداً على أسس قانونيّة سليمة، فالارتكابات، ضخمة كانت أم عابرة، تقع على عاتق كل من أمر أو سمح بها وعلى كل من نفذّها أو يسّرها.
ما هو غريب أن أصحاب القرار يحاولون وضع أيديهم على ممتلكات الناس بدل أن يباشروا حواراً مع المودعين والمصارف المؤتمنة على هذه الودائع، للتوصل إلى حل يحافظ على حقوق المودعين، مثل تقديم مؤسسات عامّة مربحة كضمانات للمودع والمصرف.
ليس من المنطقي ولا من المصلحة الوطنيّة استغلال أزمة السيولة الحادة التي يمرّ بها لبنان، بسبب سوء الإدارة السياسية، لتغيير هوية لبنان الاقتصادية ولوضع يد الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة على القطاع المصرفي، أي على أموال المودعين. إذ لا اقتصاد حرّ بلا قطاع خاص حرّ، وحجر أساسه القطاع المصرفي.
إن العبث بالقطاع المصرفي سيوجّه ضربةً قاضية للاقتصاد اللبناني ككل ولمستقبل العاملين فيه وسيؤدي إلى تحويله من العمود الفقري للاقتصاد إلى نقطة ضعف مزمنة للبنان المقيم والمنتشر.
إن محاولة الدولة تحت أي عنوان، وخصوصًا بذريعة أزمة السيولة التي تسبّبت بها، وضع اليد على القطاع المصرفي أو غيره بأي شكل من الأشكال، ستؤدّي إلى تدمير هذا القطاع على غرار نتائج تجربة الدولة في كافة القطاعات التي تديرها. إنّ فشل الدولة في إدارة هذه القطاعات وسواها، كما ترهّل وتضخّم وعدم إنتاجية وسوء إدارة وكلفة القطاع العام، يجب أن تكون جميعها حافزاً لتضافر جهود جميع مكوّنات القطاع الخاص والمجتمع المدني لمواجهة مشروع تغيير هوية الاقتصاد اللبناني وتحويله من اقتصاد حرّ إلى اقتصاد موجّه ينطوي على تأميم مقنّع.
فالقطاع المصرفي ليس ملكًا للمساهمين فحسب، بل هو أوّلاً ملك مودعيه الذين وثقوا به، وملك موظفيه البالغ عددهم ثمانية وعشرون ألفًا، ما يؤمّن عيشًا كريمًا لعشرات الآلاف من الأسر اللبنانية في مختلف المناطق، جلّهم من الطبقة الوسطى اللبنانية، عماد الاقتصاد الوطني وكل اقتصاد. وهو أخيراً ملك للاقتصاد الوطني ككل، وهو كان الرّافعة للازدهار اللبناني على مدى أكثر من نصف قرن، وسوف تعمل المصارف مع المودعين والمجتمع المدني على أن يبقى كذلك.
فــي الــحـــلّ
تؤكد المصارف إصرارها على حماية كافة الودائع المصرفية، وهذا حق كرّسه الدستور لكل مودعٍ. أمّا تحرير هذه الودائع من كل قيد أو شرط فمرتبط بأساس المشكلة، وهو ضمان السلطة السياسية لديون الدولة بموازاة تنفيذ وعودها في بدء عملية الإصلاح وإعادة هيكلة جذرية للقطاع العام، بدايةً بتطبيق القوانين المرعيّة وتفعيل السلطة القضائية، لخلق بيئة مؤاتية تشجّع القطاع الخاص على اتخاذ المبادرات والاستثمار مجدّداً. شرط أن تكون هذه الإصلاحات على أسسٍ حضارية وشفافة لا يرتهن مستقبلها لعشوائيات السياسة وبدائيتها.
على السلطة السياسية البدء بإصلاح نفسها أولاً قبل غيرها، ما يخوّلها التطبيق العملي لا الشعاراتي للإصلاحات الاقتصادية من أجل استعادة بعض من ثقة المودعين والمستثمرين. فإيداعات الناس، رغم تقطيرها المؤقت، يبقى وجودها حيث أودعتها أضمن لها من أن تقع في أيدي قطاعٍ عام أقلّ ما يقال فيه إنّه شديد البدائية وفساده متجذّر لا قعر له.
أوليست الأزمة أكبر دليل؟ إن الحل لأزمة السيولة الحادّة، كما سببها، هو أولاً سياسي قبل أن يكون اقتصادياً أو مصرفياً، فمن غير المنطقي إذاً أن تتهرب السلطة، المشكلة، من المسؤولية بتشريعٍ غير دستوري قد يريحها لأيامٍ قليلة ولكنه سيغيّر وجه النظام الاقتصادي الحرّ ويقضي نهائياً على إمكانية ازدهار لبنان وعلى مستقبل الأجيال. لا بد أن يضع الجميع خلافاتهم جانباً ويعملوا بإخلاص من أجل الوصول إلى أنجع الحلول وأسرعها تطبيقاً. ونحن أول المبادرين لمدّ اليد ومشاركة الحكومة الحاليّة في اجتراح الحلول التي تحفظ الدستور وهيبة لبنان ومصالح أبنائه وثقة المستثمرين في كل مكان وصولاً إلى غد أفضل للجميع.
هي ليست المرّة الأولى التي يقف فيها اللبنانيون، ونحن منهم، في عين العاصفة، وإن كانت هذه أعتاها وأوقحها. وسنكون، كما المواطنين، في الصفوف الأولى للمواجهة ولدعم كل محتاج. فنحن اللبنانيين، لم نصل إلى هنا لأننا تقاعسنا عن العمل، بل لأننا تقاعسنا جميعاً عن المحاسبة. هذا، متى تعلّمنا الدرس، هو بحدّ ذاته مصدر الأمل بمستقبل لا يشبه ما نحن فيه اليوم.
نهايةً، لن نكون إلا سنداً وساعداً للمواطنين في محنتهم، وسنكون كذلك، إن أرادوا، في نهضتهم عندما يحين الوقت. وهو آت لا محالة.
أخيراً وليس آخراً، بقلب منفتح غيور على بلدنا المتأزّم، نتقدّم من حكومة الإنقاذ هذه بطلب فتح حوار مع جمعيّتنا وجميع الفعاليات الاقتصاديّة لإيجاد الحل المناسب الذي يحافظ على أموال المودعين التي نحن مؤتمنون عليها، وليبقى لبنان منارة للإبداع المالي والاقتصادي والحضاري، فكما قال السلف: من شارك الناس في عقولهم شاركهم في حظوظهم.” انتهى البيان.
المصدر: جمعية مصارف لبنان
الجمعة 17 نيسان 2020