ما يميز مدينة بعلبك هو معالمها الأثرية التي تتوزع فيها معابد رومانية تاريخية يزيد عمرها على الفي سنة، لكن ما لا يعرفه الجميع أنه على بعد أمتار قليلة من القلعة تتكئ على مخزون تراثي يمتد مئات السنين، يعشش في ثنايا بيوت قديمة ذات قيم فنية وجمالية، من موروثات الأجداد ترنو بخفر نحو معبد “فينوس”، وتشرف عليها الأعمدة الستة لمعبد كبير آلهة الرومان جوبيتر، بنيت من مقالع حجارة مدينة الشمس، وطليت جدرانها بالطين الكلسي، وتم رفع سقفها بخشب السنديان المتجذر على تلال قرانا، وزين السقف أعمدة من خشب اللزاب المعمر، الذي ترك على شكله ولونه الطبيعي، واستبعد عن السطح الإسمنت والحديد، واقتصرت مواده على التراب المرصوص المتماسك بعيدان الأصل المستخرج من تبن القمح والشعير أثناء الحصاد، في مشهدية تحاكي هندسة العمارة التقليدية التراثية لبيوت بعلبك حتى أربعينيات القرن العشرين.
عندما تدخل تلك البيوت تلفتك فيها رائحة التراب، بخاصة عند الشتوية الأولى، وتستوقفك الدار التي تحيط بها مجموعة غرف تعبق بالدفء، وبركة تتوسط صحن الدار تزينها نافورة مياه رقراقة، وسلم خشبي، وأحيانا صخري، يؤدي بك إلى “العلية” التي كانت عادة تعتمد غرفة نوم للأبوين، ويتوزع على الجدران وعلى رفوف النوافذ تشكيلة من الاثريات وأواني الفخار والنحاسيات والعديد من الأدوات.
هناك، تعود بك الذاكرة إلى حكايات الجد والجدة، حيث كانت العائلة تتحلق حول المدفأة التي تحجز مقعدها في زوايا الغرف، وقودها الحطب المؤنس لليالينا بلهيب ناره و”طقطقة” اشتعاله، وتحن حينها إلى العراقة والزمن الجميل، فأنت في حضرة إبداع، يجمع البساطة والجمال، انجزه الأجداد بسواعدهم، وبمشاركة أهل الحي، في ما كان يعرف ب”العونة” يصعد البنيان بهمة التعاون والتآخي والتكافل والتضامن وتشابك الأيدي واختلاط عرق الجبين.
وعند زاوية كل مجموعة منازل في الحي شيد تنور صغير لصنع الخبز، يختزل أيام الخير والبركة، ويروي الكثير من الحكايات.
نتيجة تردي الأوضاع الأمنية، على خلفية الأحداث في سوريا، وخطر الإرهاب التكفيري قبل بزوغ فجر اقتلاعه من الجرود، تراجعت نسبة السياح الوافدين إلى مدينة بعلبك، إلا أنها لم تمنع إبن المدينة إيهاب رعد من استثمار بيوت تراثي كان مشمولا بالتأهيل، المرحلة الأولى من مشروع الإرث الثقافي عام 2005 بإقرار ترميم عدد منها، فحوله إلى “بيت للضيافة” يستقطب السياح الأجانب، ليتعرفوا الى مزايا البيت البعلبكي القديم وطرازه الهندسي، والتعرف إلى هوية الأجداد، واستطاعت تلك البيوت التراثية المساهمة، إلى حد ما، في النهوض بالقطاع السياحي الذي يعتاش منه معظم سكان المدينة.
“بيت الضيافة” المجاور لقلعة بعلبك بات اليوم معلما سياحيا مهما ومقصدا لكل الزوار، يضم طابقين يربط بينهما سلم خشبي، وتم تحويل الدار إلى غرف منامة، وساحاته أمست مطعما يستقطب عشرات الزوار يوميا، يقدم اليهم أشهى المأكولات البعلبكية التراثية مثل “الصفيحة” والكشك والبيض البلدي و”القاورما” وغيرها من الأطباق الشعبية.
ويؤكد رعد أنه “في إطار الاهتمام الكبير للسائح بالبيوت القديمة الطينية تمكنا من استغلال إحد تلك البيوت المجاورة للقلعة كمصدر جذب سياحي إلى مدينة بعلبك من خلال جذب السائح اليها لقضاء أيام عدة فيها، وباتت الإقامة في “بيوت الطين” مطلبا للكثير من اللبنانيين والأجانب الذين ينشدون الراحة في هذه النزل التراثية، وتقدم الى الوافدين الوجبات الشعبية اللذيذة التي هي من موروثات الآباء والأجداد”.
وأمل أن” تعميم التجربة على المنازل المجاورة، وفي أحياء أخرى من مدينة الشمس، للمساهمة في تطوير السياحة وتوفير فرص عمل للكثيرين، وخصوصا خلال فصل الصيف حيث يتم إحياء المهرجانات الدولية والسياحية، ويمكننا خلالها ترويج منتجاتنا اليدوية وصناعاتنا الحرفية وأكلاتنا الشعبية في معارض تنظم في جوار القلعة والمتنزهات، وهنا تقع مسؤولية الدولة التي يجب أن تولي بعلبك اهتماما خاصا ومنها الاهتمام بإعادة تأهيل وترمميم للبيوت التراثية التي يزيد عمرها على مئتي عام”.
بدورها، الدليلة السياحية لسلي صائغ أكدت أهمية هذا المشروع “في هذا الحي التراثي المجاور للقلعة الأثرية، الذي كان منسيا، وبدأت الحياة تدب في دروب منازله وأروقتها وغرفها، فأحيا مسارا سياحيا استفاد منه معظم القاطنين والمستثمرين في المحلة، وبات هناك مسار سياحي جديد في بعلبك له طابعه الخاص، ويشعرنا بجمال لبنان، ونتعرف من خلاله على تراث المدينة وثقافتها، ونمط حياة أبنائها، كما أن تناول الطعام التراثي في سهرة ممتعة في دور الضيافة، جذب السياح، وخصوصا الاجانب منهم، الذين يحبون نماذج هندسية كهذه بعيدا من الحداثة”.
تحقيق: وسام اسماعيل – الوكالة الوطنية للإعلام
الأربعاء 29 أيار 2019