لا تُعرَف بعلبك فقط بهياكلها العابقة بالألغاز والتاريخ، أو بشمسها الساطعة أو بمهرجاناتها الدولية، أو بـ”الصفيحة اللذيذة” التي أصبحت سرا من أسرار موائدها، إنما كذلك بطاقاتها الدفينة وأرضها الخصبة ومنتزهاتها الخضراء وفنادقها الأثرية ومطاعمها الساحرة العامرة بالضيافة، ما جعل منها مدينة سياحية عالمية أُدرجَت هياكلها كمواقعَ أثريةٍ مميّزة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي منذ العام 1984.
ورغم تضافر جهود المجلس البلدي لحماية هذه الكنوز، ودعم الأحزاب أحياناً والمجتمع المدني والأهالي إلا أن تحدياتٍ كثيرةً تثقل كاهل المدينة الرازحة تحت وطأة الإهمال المزمن.
يتربع ملف النازحين السوريين على رأس التعقيدات التي لا يبدو أنها تنذر بحلحلة قريبة. الأهالي الذين تحدثنا إليهم أطلقوا الصرخة بعدما قاربت أعدادُ النازحين عددَ السكان خاصةً وأن المدينة فتحت أبوابها لإيوائهم. فباتت البنى التحتية (الصرف الصحي والمياه والكهرباء وخطوط التوتر العالي) عاجزة عن إستيعاب الضغط الهائل للسكان. حتى أن الثقل المتزايد على الشبكات يواصل استنزاف مشاريع البنى التحتية التي نفذت سابقا.
وبالمحصلة، باتت “البلدية” عاجزة بإمكاناتها عن تأهيل بعلبك إقتصاديا وبنيويا، خاصةً أنها لم تقبض لغاية اليوم مخصصاتها من الصندوق البلدي المستقل عن العام 2017. وهي بالطبع لا تستفيد من مساعدات الجهات المانحة للنازحين التي تقدم مباشرة للجمعيات والمؤسسات.
يرى مسؤول لجنة الإعلام وعضو بلدية بعلبك مصطفى الشلّ أن المشكلة تكمن في تنظيم الدولة اللبنانية للعلاقة مع الجهات المانحة، فالبلدية تحتاج الى الأموال والمساعدات في ظل غياب الأفق الزمني لعودة النازحين إلى بلادهم. فهي من يتعرض للضغوط كونها المسؤولة عن تقديم الخدمات وإعادة تأهيل البنى التحتية وهي المدخل لأي مشاريع تنفذ داخل المدينة، متسائلا: لم لا توزع المساعدات بالتعاون بين البلديات والجمعيات بدل أن تقتصر العلاقة على إصدار الإذن البلدي للجمعيات للمباشرة بالتوزيع!.
وعن تجاوب منظمات الأمم المتحدة مع هذا المطلب خاصة وأنهم في كلّ مرة يتعهدون بأن مشاريعهم لدعم النازحين تشمل أيضاً دعم المجتمعات المضيفة، يقول الشل: طلبنا منهم مرارا أن يمتد الدعم إلى البلدية خصوصا أنها الملمة بمتطلبات وحاجات المدينة. فهي تعمل لخير الجميع، وتصرف من موازنتها لصيانة البنى التحتية التي يستفيد منها النازحون قبل سواهم، إذ تبلغ كلفة صيانة الصرف الصحي وحدها حدودَ الخمسمئة مليون ليرة سنويا. ولكن من دون جدوى!
فضلا عن ذلك، فإن مخصصات بعلبك من الصندوق البلدي المستقل غير كافية وهناك تفاوت كبير مقارنة مع مخصصات مراكز المحافظات الأخرى. يضيف الشل: كيف يعقل على سبيل المثال أن يخصص لبلدية زحلة ستة عشر مليار ليرة مقابل ثلاثة مليارات ومئتي مليون ليرة فقط لبعلبك التي يتجاوز عدد سكانها المئتين وخمسين ألف نسمة وباتت مركز محافظة وفيها كما في زحلة معمل فرز نفايات لإحدى عشرة قرية بالإضافة إلى المدينة.
وفيما يلحظ القانون اللبناني إقرار مخصصات إضافية للمدن التي تحوي معامل فرز النفايات، لم تعاد برمجة مخصصات بعلبك رغم مراجعة وزارة الداخلية أكثر من مرة. وما زالت البلدية تنفق من موازنتها المحدودة على هذا الملف وبالرغم من ذلك نجحت بتفادي أزمات النفايات التي شهدتها مناطق لبنانية عديدة.
في سياق متصل، طالب الشلّ بإقرار زيادة مخصصات البلديات الفقيرة عن سواها لتمكينها من مواكبة النمو الذي سبقتها إليه البلديات الأخرى كون مبدأ المساواة في توزيع المخصصات لم يعد كفيلا بتحقيق التوازن الإنمائي، “لأننا نعاني من عقود من الإهمال، لن يصلحها “إنماء متوازن” يبدأ الآن، فكيف إن لم يبدأ جدياً بعد!”
الإنفاق على ملف النفايات وصيانة البنى التحتية وضع حدودا لتنفيذ المشاريع الحيوية الأخرى في غياب الدعم المادي. وزاد الطين بلة انعدام المنفعة البلدية من بعض النشاطات الثقافية والسياحية السنوية التي تنظم داخل المدينة. مهرجانات بعلبك خير مثال على ذلك. لا “تذاكر دخول” أيام المهرجانات باستثناء تذاكر الحفلات التي يقتطع منها خمسة في المئة فقط للبلدية لدواعي التنظيف. والمستغرب أن حدثا بضخامة مهرجانات بعلبك الدولية يكاد لا يساهم في تنشيط الحركة التجارية في المدينة، فالزائر يغادر مباشرة بعد اختتام الحفلات ويجهل وجود الفنادق والمقاهي والمطاعم الجميلة التي تعج بالناس على بعد أمتار. ومن هنا تدعو البلدية لجنة المهرجانات إلى اعتماد مواقف السيارات عند منتزهات رأس العين حيث يمكن للزائرين ركن سياراتهم والتعرف إلى هذه المنطقة الحيوية ومن ثم السير خطوات لا تتجاوز ال 800 متر إلى القلعة، على أن تؤمن البلدية وسائل النقل لمن لا يستطيع المشي. وقد نجحت هذه التجربة في السابق فقدمت الفنادق والمطاعم عروضا سياحية مشجعة وساهمت في إنجاح المهرجانات واستفادت المنطقة.
وعن تذرّع البعض بالوضع الأمني للحؤول دون ذلك، يشدد الشلّ على أن الأمن ممسوك في بعلبك بجهود مخابرات الجيش والاجهزة الأمنية التي خلقت استقرارا نوعيا، إلى جانب تأكيد المرجعيات السياسية والحزبية على حماية المهرجانات ودعم السياحة وخلق مناخ آمن للزوار، مما يبدد المخاوف ويسمح باستخدام المهرجانات لإنعاش الحركة في كل المدينة. ويعتبر أن الحوادث التي تحصل في بعلبك تحصل كذلك في مجمل المناطق اللبنانية. فحصول حادثة في الجرود النائية مثلا لا يعني أنها وقعت داخل بعلبك، مناشدا وسائل الإعلام التي اعتادت على التضخيم توخيَ الدقة في نقل الخبر والمساهمة في تحسين صورة المنطقة جنبا إلى جنب مع البلدية التي ستعد خريطة سياحية للمدينة ومنتزهاتها فضلا عن خطة جديدة للتواصل مع الإعلام.
وفيما المطلوب تفعيل الإهتمام بالمدينة وتسهيل وصول الزائرين عبر استحداث اوتوسترادات سريعة ونفق يربط بيروت بشتورا على سبيل المثال، يتحرك نواب المنطقة لتغيير واقع الحرمان المزمن، غير أن اللائحة طويلة: لم يستحدث حتى الآن مركز رسمي لمحافظة بعلبك تنتقل إليه الإدارات العقارية والمالية والصحية وغيرها بل مجرد مبنى مؤقت قدمته البلدية للمحافظ بدعم من بعض الجهات المانحة. وفي هذا السياق كشف الشل عن عرض من البلدية لبناء مجمّع على عقار من عشرة آلاف متر مربع لجمع دوائر المحافظة كافة. هذه الخطوة ستمكّن أبناء بعلبك-الهرمل من إنجاز المعاملات في مكان واحد، وتشجِّع الحركة التجارية داخل بعلبك وتخلق فرص عمل جديدة.
وتطرق الشل إلى انتشار “الفقر” في بعلبك خالقا بيئة مهيئة للفوضى في عدد من القطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الزراعة. يقول في هذا الصدد: لست مع تشريع زراعة الحشيشة خصوصا في ظل صعوبة ضبطها، ولكن عندما منعت في بعلبك-الهرمل لجأ الأهالي إلى الزراعات البديلة التي استنفدت الكثير من الدراسات من دون أن تخلص إلى توفير دعم جدي. فأضحى المزارع عاجزا عن تصريف انتاجه نظرا لعدم تنظيم الإستيراد وتعقيدات ضبط الحدود من دون الحصول أي مساعدة وُعدَ بها.
وما ينطبق على الزراعة ينطبق على الصناعة والسياحة وخدمات الهاتف والانترنت والمياه وسائر بنود لائحة الإنماء الطويلة التي تحتاج إلى متابعة يومية وعمل جماعي على مجمل الصعد السياسية والحزبية والإجتماعية والبلدية والإعلامية لنجدة المدينة ولتفعيل الموسم السياحي لصيف 2019.
محطتنا الأخيرة كانت مع المجتمع المدني في بعلبك. رافقنا رئيس تجمع شباب بعلبك الدكتور علي حسن في جولة سياحية في المدينة والمناطق المجاورة شارحا تاريخ الهياكل والآثار المنتشرة في كافة أرجاء القضاء وليس فقط في القلعة التاريخية. حسن، وهو أيضا أستاذ جامعي وعضو مجلس بعلبك الثقافي، دعا إلى ضرورة الإلتفات الرسمي إلى المنطقة وإدراجها كأولوية على سلم برامج التنمية، مشددا على أن لبعلبك أهميةً تاريخية عالمية وخزانا بشريا يمكن استثماره في إنماء مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية.
يقول د. حسن: رغم الوضع المعيشي الصعب، ما تزال بعلبك مدينة السلام والأمن والضيافة والثقافة، وما يزال أهلها متحدين في تنوعهم السياسي والديني. وكمجتمع مدني ومجلس ثقافي ندخر الجهد والوقت لتغليب الصورة الحضارية التاريخية للمدينة وتعزيز العيش المشترك بين أبناء كافة المذاهب وبين مختلف التيارات السياسية ولكي نسدل الستار على من تسول له نفسه تلطيخ هذه الصورة خاصةً أن عدد المفسدين الخارجين عن القانون لا يتجاوز الخمسين مطلوبا ويمكن للقوى الأمنية تطويقهم واعتقالهم من دون عناء.
وعن حرية تحرّك المجتمع المدني داخل بعلبك يشدد حسن على أن مجمل الجهات الحزبية والسياسية متعاونة في أغلب الأحيان. ويضيف: لم يضايقنا أحد، إعتدنا قولَ رأينا بتجرّد، لأننا في معظمنا حياديون، والناس معجبون بنشاطنا ونشاطاتنا وفي أقصى الأحوال، حين لا ينال نشاطٌ ما رضى أحد الأحزاب، تقتصر معارضتها على دعوة مناصريها إلى الإمتناع عن المشاركة فيه.
في الخلاصة، يجتمع الرأيان على أن محافظة بعلبك، كمحافظة عكار، تعاني حرماناً تاريخياً مزمناً مارسه “المركز” على “الأطراف” وفاقمته اليوم أزمة النازحين. في حين أن المنطقة تزخر بالامكانات التي إذا ما أُحسِنت إدارتها وهُيّئ لها الدعم والاهتمام الكافيان كفيلة بالنهوض ومنافسة أعرق مدن المتوسط.
ولا ننسى ما قاله الأديب الكبير جورج برنارد شو عندما زار بعلبك سنة 1931 “لو ان عندنا مثل بعلبك في إنكلترا لكنا ألغينا الضرائب!”
Bekaa.com-فكتوريا موسى
البقاع هي ارض الكنوز، لكن للاسف الشديد الناس ما بتقدر ولا بتعرف اصلا… اتمنى انو يجي وقت نعرف قيمتنا اكتر ونقدر ثرواتنا ونستفيد منها ونحافظ عليها