الإصرار على إحالة حادثة “البساتين” على المجلس العدلي من دون سواه، فيه ترفٌ لا تتحمله أوضاع البلاد.
لقد فجّر هذا المطلب أزمة سياسية وعطّل مجلس الوزراء فيما الحاجة ملحّة لانتظام القيادة السياسية والمالية، بعدما بلغت الظروف الاقتصادية والمالية حدود الخطر.
المحاكم العادية قادرة على فرض أقسى العقوبات، فلماذا المجلس العدلي الذي يشبه المحاكم الاستثنائية التي تنشأ في أعقاب الانقلابات العسكرية والثورات الكبرى فتعلِّق المشانق لفرض هيبة السلطة وترويع الناس؟
هذه الأزمة التي عطلت مجلس الوزراء ظاهرة للعيان، لكن الأخطر منها هي الأزمات الصامتة التي تعتمل تحت الأرض ولا يعرف أحد متى تنفجر.
لا ينبغي التقليل من أهمّية حراك رؤساء الحكومة السابقين، فؤاد السنيورة وتمام سلام ونجيب ميقاتي، الذي سلّطت “النهار” الضوء عليه يوم أمس. فمن يتعمّق في هذا الأمر يكتشف أن خلف الحركة الهادئة بركاناً آخذاً بالتكوّن والتطوّر تحت الأرض، وهو مرشّح للتحوّل إلى مشكلة بعد وقت غير بعيد.
هذا الحراك يعكس شعوراً لدى “السنّية السياسية” وقاعدتها الشعبية بأن اتفاق الطائف مستهدفٌ وأن هناك نيّة لتعديله بالممارسة من دون المساس، ربما، بالنصوص. إذا صحّ ذلك، بالتزامن مع إعادة فتح ملفات الجبل، فإنه يوحي بأن لبنان مهدّد بالعودة إلى الانقسامات التي كانت قائمة في مرحلة الثمانينات، وكأن الحرب المشؤومة لم تنتهِ بعد.
الاقتصاد اللبناني لا يتحمل “نكزة” كما يُقال باللغة المحكية، وهو بات على حافة الهاوية، فلا يتحمل إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل نهاية الحرب الأهلية.
الخطر الأوّل والأكبر الذي يواجه الوضع المالي والاقتصادي لا يتعلّق بسعر الصرف، بل يكمن في الخروج الكثيف للأموال من لبنان، لأن القطاع العام بفرعيه، الخزينة ومصرف لبنان، مدين للمصارف بأموال طائلة بالعملات الأجنبية، بما يفوق كثيراً موجوداته بالعملات. فإذا استمرّ النزف بالعملات بالزخم الراهن نفسه، تُصبح “الجمهورية اللبنانية” غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها حيال الدائنين.
حقّق ميزان المدفوعات اللبناني فائضاً تاريخياً سنة 2009، قارب ثمانية مليارات دولار، ثم انخفض الفائض إلى النصف في السنة التي تلتها، ليبدأ مسلسل التراجع الدراماتيكي في حسابات لبنان الخارجية. في السنوات الخمس التالية حقّق ميزان المدفوعات نتيجة سلبية مجمّعة تقارب 9.5 مليارات دولار.
التقط ميزان المدفوعات أنفاسه سنتي 2016 و2017 نتيجة هندسات مصرف لبنان الباهظة الثمن. ورغم أن هذه الهندسات لم تتوقّف حتى الآن، بما ترتّبه من أعباء ثقيلة على الدولة ومصرف لبنان والمجتمع، فقد استمرّت نتائج الحسابات الخارجية بالتراجع المثير للقلق.
في النصف الثاني من سنة 2018 بلغ الرصيد السلبي للموجودات الخارجية للقطاع المالي 4.6 مليارات دولار، وفي آخر السنة نفسها أظهرت النتائج المعلنة أن مصرف لبنان خسر 2.3 ملياري دولار من موجوداته الخارجية والمصارف 2.5 مليارين.
الأشهر الأولى من العام الجاري أظهرت أن المشكلة ليست مستمرّة فحسب بل هي تتفاقم بسرعة مثيرة للقلق. لقد تجاوز العجز في الأشهر الخمسة الأولى الخمسة مليارات دولار، بسبب تراجع الموجودات الخارجية للمصارف حوالى ثلاثة مليارات دولار والموجودات الخارجية لمصرف لبنان بأكثر من ملياري دولار.
كان طبيعياً أن تتأثر سلباً موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بتراجع الموجودات الخارجية للنظام المالي، رغم جهود المصرف المركزي لتشجيع المصارف على استقطاب الودائع الخارجية بالدولار وتجميدها لديه. رغم هذه العمليات، تراجعت موجودات مصرف لبنان الخارجية النقدية ستة مليارات دولار منذ بدايات العام الماضي.
يكاد المرء يجزم بأن لبنان المتعثّر ليست لديه مشكلة اقتصادية. إن مشكلته سياسية أوّلاً وأخيراً. فقيادته، قديماً وحديثاً، تفتقد الرؤية وحسن الإدارة وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية والشخصية.
لكن المشهد الراهن لا سابق له ولا مثيل. ففيما يكاد البلد يختنق، يبحث السياسيون “بالسراج والفتيلة” عن الانقسامات والحزازات والفتن لملء وقتهم “الضائع”، وكأنهم يتعمّدون قتل البلد.
د. غسان العياش نائب سابق لحاكم مصرف لبنان
الأربعاء 17 تموز 2019 جريدة النهار