الليطاني قصة تضحيات وأحلام أوشكت ان تضيع
ابراهيم بيرم – النهار
منذ نحو عامين وكل لبنان مستغرِق في عملية صعبة عنوانها العريض: الحد من مسببات تلوث نهر الليطاني، ولكن في العمق ترمي هذه العملية الى تحرير مشروع حيوي انمائي – اقتصادي بالغ الاهمية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ويتصل بحياة اكثر من 200 ألف مواطن، من هيمنة رجالات في الدولة ساهموا، من خلال حسابات فئوية ضيقة، في تحويل هذا النهر من رمز حياة وخير وعطاء الى بؤر تلوث تشي بالمرض والضرر. هكذا، وعلى مدى سنوات عجاف، صار هذا النهر الممتد من عمق البقاع بطول نحو 180 كيلومترا (وفق معلومات الكتب المدرسية القديمة) وترفده عشرات الينابيع والجداول (اللبوة وقاع الريم وقب الياس ونبع شتورة وينابيع مشغرة وسواها، الى بحيرة سد القرعون) وينتهي في نقطة عند شمال صور حيث يسمى عند مصبه نهر القاسمية (نسبة الى مقام وليّ اسمه القاسم)، اقرب ما يكون الى مجرور صرف صحي.
باختصار، فقد هذا النهر الأطول والأغزر في لبنان دوره المفترض وضاعت مهمته الانمائية بفعل “سياسات خرقاء لا تعرف لثروة هذا النهر قيمة، وقد اصطدمت الجهود الرامية الى إعادة بعث الحياة فيه الى الآن بصعوبات وتعقيدات جمة”، وفق فحوى حديثنا مع المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية، التي ناط بها القانون منذ انشائها في مطلع الخمسينات ادارة هذا المرفق الضخم.
مشروع الليطاني وادارته والاستفادة من ثروته المائية هو، كما يقول المدير العام السابق للمصلحة النائب السابق ناصر نصرالله في لقاء مع “النهار”، “من نتاج أفكار عبقرية لبنانية فذة هي عبقرية المهندس الراحل ابرهيم عبد العال الذي وضع في مطلع الخمسينات استراتيجية استشرافية للاستفادة من الثروة المائية اللبنانية خلال قرن من الزمن على مستوى تأمين مياه الري والشرب وانتاج الطاقة الكهرومائية، وبهذا المعنى كان سابقا لعصره اذ اتضحت لاحقا اهمية المشروع الذي عمل عليه بكل حماسة وعمق دراية، لكن الظروف شاءت ان تفضي الى ما اصاب هذا المرفق الحيوي من علل وامراض مزمنة توشك ان تودي به”.
عبد العال، وفق نصرالله، كان طاقة كبرى ربط بين الثروة المائية ومناحي الاستفادة الاقتصادية في اطار ما صار يُعرف أممياً منذ فترة بـ”التنمية المستدامة”.
ويضيف: “بناء على الدراسات التي وضعها هذا الرجل، الذي توفي عام 1959 في مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت في ظروف غامضة وصفتها صحف ذلك الزمن بأنها “عملية قتل مدبّرة بدقة”، أُنشىء مشروع الليطاني وأُقر مرسوم انشاء المصلحة الوطنية لنهر الليطاني عام 1954، ومن ثم توالى ظهور المؤسسات الحيوية المقامة على طول مجرى النهر من بحيرة القرعون الى سدّها ومؤسسة الانتاج الكهرومائي المقامة عليه امتداداً الى مشروع ري القاسمية وجوارها، فضلاً عما يتصل به من مشروع مياه علمان الى مشروع بحيرة انان وسواها من مشاريع واعدة ومنتجة”.
وليس جديدا ان المصلحة تدير هذا المشروع الحيوي منذ ذلك الوقت الى الأمس غير البعيد حيث استفاق الجميع على ما يشبه الكارثة، اذ تبين ان مفخرة لبنان، أي نهر الليطاني، قد انساب من أيدي اللبنانيين واستحال الى ما يشبه مجرور صرف صحي لما لحق به من تلوث. وعلى نحو متأخر أُطلقت صرخات تحذر من آثار هذه الكارثة وتداعياتها، اقترنت بدعوات لحماية هذا المنجز الانمائي الضخم، فأُلّفت لجان ورُصدت اموال وانطلقت حملات وطنية اعلامية – سياسية تدعو الى وقف التعديات بالجملة على المجرى، واستطرادا الى اعادة تأهيله واعادته الى دوره المفترض. واللافت ان العجز عن اقامة مشاريع انمائية، ترافق مع “تدمير ممنهج للمشاريع القائمة بهذا الدور منذ زمن”.
والمفارقة ان هذه الحملات والجهود تزامنت مع تعيين مدير عام جديد للمصلحة هو المهندس سامي علوية، وهو جنوبي الهوى والانتماء وينتمي الى الجيل الباحث بدأب عن دور انمائي ونهضوي، فجعل من قضية “اعادة بعث الحياة” في النهر ورفع الضيم اللاحق به قضيته. ومذذاك يسعى الى بلوغ هذا الهدف.
يقر علوية في حديث الى “النهار” بانه “اصطدم مذ تسلمه مهماته بتركة ثقيلة من المشاكل ناتجة بالاصل من حسابات ضيقة فئوية لا يبرَّأ منها أحد هي التي أوشكت ان تضيع النهر من بين ايدينا. ومصدر هذه المشاكل:
- تراخي الاجهزة الرسمية المعنية في تأدية دورها في حماية النهر.
- تواطؤ ضمني من الطبقة السياسية التي، وياللاسف، تاجرت باعطاء تراخيص صناعية عشوائية ولا تستند الى دراسات للجدوى، مما فاقم مستوى الكارثة.
- تقصير المجالس والمديريات المعنية في تنفيذ المشاريع المقرة والتي تشكل شبكة أمان حول النهر وتقيه خطر التلوث.
- ولا ننسى ايضا تباطؤ القضاء في القيام بالدور المنوط به وهو دور بالغ الاهمية”.
وباختصار، يؤكد علوية ان “القرار بانهاء مأساة نهرنا المعطاء متَّخذ إن على مستوى الحماية من الآن فصاعدا، او على مستوى تحريره من قبضة التلوث، ولاعودة عنه، ولكن في الوقت نفسه نعلن اننا نحتاج الى وقت وجهد استثنائي”.
ويسهب علوية في الحديث عن الاجراءات والتدابير التي اتخذت وتلك التي بدأ تنفيذها بعد توليه مهماته، والتي يعتزم تنفيذها، لافتا الى ان الشكاوى التي رفعتها المصلحة ضد المعتدين على مجرى النهر تجاوزت العشرات.
ويلفت ايضا الى الحملات الاعلامية اليومية التي يقوم بها لحماية النهر ورفع التعديات والاشارة الى المعتدين، وخصوصا اولئك الذين وفروا الرخص اللاقانونية للمؤسسات الصناعية وهي ربما من الآفات الكبرى. ويشير الى ان الامطار الغزيرة هذه السنة وضعت حداً لمسألة انخفاض منسوب مياه النهر وبحيرة القرعون لكنها لم تنهِ مشكلة التلوث.
ورداً على سؤال عن المشاريع لحماية النهر، أوضح أنه “على سبيل المثال بدأنا بمشروع محطة التكرير في تمنين التحتا التي تعهّد مجلس الانماء والاعمار اقامتها، لكننا اصطدمنا بترخيص أعطته البلدية لشخص أقام بناء في الموقع نفسه فتأخر المشروع لتسوية الوضع . أما بالنسبة الى المشروع المماثل في بلدة المرج، فقد تأجل التنفيذ بعدما ذكرت وسائل اعلام ان الشركة التي رسا عليها التعهد سبق لها أن تعاملت مع اسرائيل”.
ويخلص علوية الى القول: “مهمتنا طويلة وشاقة وتحتاج الى دعم من الجميع، ولكن لا أحد يتوهم اننا في وارد التراخي أو العودة عن قرارنا إعادة الروح الى نهرنا العظيم”.
جريدة النهار 16 آذار 2019