ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في الديمان، وعاونه المطرانان جوزيف نفاع وبيتر كرم، بمشاركة المطرانين مطانيوس الخوري وحنا علوان، القييم البطريركي الاب طوني الآغا، أمين سر البطريرك الاب شربل عبيد، الاب فادي تابت. وحضر القداس النائب نعمة افرام ووفد من المهندسين برئاسة المهندس بهاء حرب وعدد من المؤمنين
وألقى الراعي عظة بعنوان: “كان يسعى زكا ليرى من هو يسوع” (لو 3:19)، قال فيها: “بقلب يعتصره الحزن والألم ممزوجين بالرجاء للانفجار الهائل الغامض الذي وقع في مرفأ بيروت عصر الثلاثاء 4 آب، نقدم هذه الذبيحة الإلهية معكم لراحة نفوس ال 155 ضحية بريئة وعزاء عائلاتهم، ولشفاء ال 5000 جريح من بينهم 120 في حالة حرجة، ولإيجاد ال 60 مفقودا، ومساعدة أصحاب ال 8000 بيت متضرر، وال 300.000 الف نازح ومالكي السيارات والشاحنات والباصات التي أتلفت حريقا أو تدمرت بالانهيارات، ولإعادة ترميم وبناء ما تهدم في المستشفيات والمدارس والكنائس ودور العبادة والمؤسسات العامة والخاصة الصناعية والتجارية والسياحية وسواها من معالم بيروت الهندسية التاريخية الجميلة. إنها كارثة هزت دول العالم. ومن حقها، إذ تمد لبنان بالمساعدات السخية والمحبة، أن تعرف أسبابها الغامضة، والمرجعية المحفوظة لها منذ ست سنوات هذه الكمية الهائلة من المواد المتفجرة في أخطر مكان من العاصمة، والغاية من وجودها. إنها جريمة موصوفة ضد الإنسانية. ومن الواجب الاستعانة بتحقيق دولي لكشف حقائقها كاملة وإعلانها، مع وجوب محاسبة كل مسؤول عن هذه المجزرة والنكبة مهما علا شأنه.
رغم هول الكارثة، شعرنا بيد الله الخفية التي نجت المئات من الموت وعشرات الألوف من الأذى. وكم ارتفعت صلوات في تلك الهنيهات الرهيبة تستنجد بالرب وبالعذراء! وكم كان معبرا ترداد صلاة: يا عدرا احمينا وكم دخلت إلى عمق القلوب صلاة أم تبكي ابنها أو ابنتها، وتقول بغمرة من الدموع: لتكن مشيئتك يا رب!.
تحية من القلب إلى المؤسسات والجمعيات والروابط الانسانية والاجتماعية والأهلية والكشفية والرسولية والخاصة والى شباننا وشاباتنا اللبنانيين الذين أتوا بيروت من مختلف المناطق وتطوعوا بسخاء لمساعدة العائلات المنكوبة والجرحى، ولتنظيف الشوارع. هؤلاء هم شباب الثورة الحضارية ومستقبل لبنان الواعد. من أمثالهم نريد قيادات جديدة ومسؤولين جددا يتحلون بروح التفاني والتضحية والعطاء. ونحيي بطولة وتضحيات الجيش والقوى الامنية وعناصر الصليب الاحمر وفرق الاطفاء والانقاذ وعناصر الدفاع المدني، ونعزِيهم بضحاياهم، ونصلي لشفاء جرحاهم.
تحية عرفان جميل وشكر لجميع الدول شرقا وغربا الذين سارعوا وأرسلوا مساعدات متنوِعة، ولتلك التي قطعت وعودا بمساعدات. عظيم هذا التضامن الإنساني الكبير، الذي عبرت به هذه الدول عن حقيقة مفهوم التضامن الذي يعطينا الشعور بأننا كلنا مسؤولون عن كلنا. بهذا التضامن لم ترفع الحصار عن السلطة الحاكمة، بل عن الشعب اللبناني المنكوب. ونوجه تحية بنوية إلى قداسة البابا فرنسيس مع شكره على صلاته والنداء الذي وجهه إلى الأسرة الدولية لمساعدة أهل بيروت، كما نشكر مجامع الكرسي الرسولي والكرادلة والبطاركة والأساقفة ومطارنة أبرشياتنا في بلدان الانتشار، ورؤساء المجالس الأسقفية في مختلف بلدان العالم الذين أرسلوا الينا رسائل تضامن مع الشعب اللبناني وأهل بيروت والصلاة من أجلهم.
ونود توجيه عاطفة شكر وتقدير للرئيس الفرنسي السيد Emmanuel Macron، على الساعات المليئة بالعاطفة التي قضاها في بيروت بعد يوم من وقوع الإنفجار، وقد سبقته طائرات المساعدات من بلاده. إن زيارته التفقدية للمرفأ ولشارع الجميزة عزت أبناء بيروت واللبنانيين وشجعتهم. ووضعت المسؤولين السياسيين أمام خطورة مسؤولياتهم وحجم تقصيرهم ونتائج مكابرتهم.
بهذه الزِيارة شارك اللبنانيين إرادتهم في إنقاذ لبنان وحدد مساحة الدور الدولي. وبها جدد ميثاق الصداقة اللبنانية – الفرنسية الذي يعود إلى ألف عام. وهي صداقة بدأت مع الموارنة اولا فمع المسيحيين ثم مع سائر اللبنانيين. وميزتها أنها تؤمن بكيانِ لبنان ووحدته، وبالشراكة المسيحية الإسلامية في ظل دولة حيادية، حرة، مستقلة، وسيدة خيارِها وقرارها الوطني. ونشكر الرئيس الفرنسي والامين العام لمنظمة الامم المتحدة على دعوتهما إلى مؤتمر دوليٍ يعقد ظهر اليوم الاحد لنجدة لبنان والمساهمة في إعادة إعمار بيروت ومدارسها ومستشفياتها. ما يؤكد تصميم أصدقاء لبنان في العالم على مساعدته للخروج من أزمته الوطنية. وهذا هو مضمون النداءِ المثلث الذي أطلقناه في الخامس من تموز الماضي أي: رفع الحصار عن الشرعية، ونجدة الدول الصديقة، وإعلان حياد لبنان. إن التغيير، مهما كان عمقه، يجب أن ينطلق من نظامنا الديموقراطيِ ومن دستورنا ومن ميثاقنا الوطني ومن الثوابت اللبنانية التاريخية.
إن لقاء الرئيس ماكرون مع الشعب المجروح بالعمق في شارع الجميزة دعوة للسلطة كي تصغي إلى صوت الشعب والثورة، وإلى نداءات المجتمع الدولي المتكرِرة: من الدول الكبرى إلى الإتِحاد الأوروبي، ومن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، إلى المؤسسات النقدية العالمية، التي حضت المسؤولين، حكما وحكومة ومجلسا نيابيا، على سماعِ صوت الشعب، وتغييرِ الأداء، وإجراءِ الإصلاحات، ومكافحةِ الفساد، وتوحيدِ السِلاح، والحيادِ عن الصِراعات، واحترامِ القراراتِ الدولية، وإشراكِ الأجيالِ الجديدة في حكمِ البلاد وتحضير مستقبلها. لكن كل نداءات العالم، بعد نداءات الشعب، ذهبت سُدى فتفاقمت الأوضاع واستشرى الفساد وعمت المحاصصة وتناثرت مؤسسات الدولة أشلاء كزجاج بيروت.
إن ما شهدناه بالأمس من تحركات شعبية غاضبة يؤكد نفاذ صبر الشعب اللبناني المقهور والمذلول، ويدل على التصميم في التغيير إلى الافضل. ولكن في الوقت عينه نبدي حزننا وأسفنا لسقوط شهيد من قوى الأمن الداخلي نسأل لنفسه الراحة السماوية، وعددٍ كبيرٍ من الجرحى في صفوف القوى الأمنية والثوار نصلي من اجل شفائهم.
ونسأل: ألا يستوجب كلُ هذا، مضافا إلى كارثة بيروت ومأساة أهلها، قراراتٍ جريئة في دولةٍ ديمقراطيةٍ تُعيدُ النظر في التشكيلة الحاكمة وطريقة حُكمِها؟ فلا تكفي إستقالة نائبٍ مِن هنا ووزيرٍ من هناك، بل يجب، تحسُسا مع مشاعر اللُبنانيِين وللمسؤولية الجسيمة، الوصول إلى استقالة الحكومة برمتها إذ باتت عاجزة عن النُهُوض بالبلاد، وإلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، بدلا مِن مجلسٍ بات عاطلا عن عمله.
إننا نؤمن إيمانا وطيدا أن لبنان سيقوم كدولةٍ إلى نظامٍ جديد هو “نظام الحياد الناشط” الذي، ما إن أطلقنا فكرته في الخامس من تموز الماضي، حتى هبت عارمة موجةُ التأييد. لا لأنه فكرة جديدة، بل لأنه من صميم الكيان اللُبناني ومسيرةٍ دامت خمسين سنة، قبل أن تبدأ بالتدهور مع الحرب اللُبنانية التي استُبيحت فيها ومعها أرضُه وسيادتُه من مختلف الجهات. مِن شأن هذا “الحياد” أن يُحقِق الاستقرار، ويُؤمِن خير جميع اللُبنانيِين، ويُعيد وحدة العائلة اللُبنانية بكلِ مكوِناتها وجمال تنوُعِها.
في ضوء إنجيل اليوم، كلُنا بحاجةٍ إلى خلاصٍ روحي، لكي تتبدل حياتنا، فيسلم المجتمع والدولة. ولكن لا خلاص من دون توبة. فلو لم يتب زكا لما نال الخلاص.
عالمنا بحاجةٍ إلى توبة بكلِ أبعادها: توبة إلى الله بالعودة إلى رسومه ووصاياه، وبعبادته وحده من دون أيِ صنمٍ شريك، أشخصا كان، أم مالا، أم سلطة، أم حزبا، أم سلاحا، أم إيديولوجية، وبالاصغاء إلى اعتراض الضمير. توبة إلى الذات بالعودة إلى واجب الحالة والوظيفة والمسؤولية؛ توبة إلى الوطن بالولاء له وحده من دون خيانة، والتضحية في سبيل المحافظة على كيانه ووجهه السِياسي، وتنمية قدراته، وحفظ ماله العام ونموه، وإحياء علاقاته المثمرة والبناءة مع مختلف الدُول؛ توبة إلى المواطنين بتأمين خيرهم العام وحقوقهم الأساسية وعيشهم الكريم، في جوٍ من الإستقرار السِياسي والإقتصادي والأمني والمعيشي؛ توبة إلى الدُستور والميثاق ووثيقة الوفاق الوطني، بحفظها وتطبيقها نصا وروحا، وبالكف عن مخالفتها واستنباط عادات وتقاليد منافية لجوهرها من أجل مصالح شخصية وفئوية، وباحترام فصل السُلطات التشريعية والإجرائية، وبحماية استقلالية القضاء، وبالكف عن التدخُل السِياسي في الإدارات العامة.
نسأل الله، بشفاعة أمِنا مريم العذراء سيِدة لبنان وسيِدة قنُوبين وملجأ الخطأة، أن يمنحنا نعمة التوبة والخلاص، لكي نستحق ان نرفع كل حينٍ نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والرُوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
الأحد 9 آب 2020 الوكالة الوطنية للإعلام