تحت عنوان “اقتلاع الفاسدين وزراعة الأرض”، كتب الاب عبدو رعد:
أيام طفولتي كنت أذهب مع أبي إلى ري الأرض جرّا (مياه مفتوحة وغزيرة تعبر الأقنية وتعوم على وجه الأرض لترويها)، وكم كنا نقضي الليالي بانتظار دورنا. وكنا نذهب إلى جمع الحطب والوزال الذي كان مازوتنا وغازنا للخبز والطبخ.
ذكريات جميلة اليوم، لكنها أيام صعبة في الماضي.
وكنا نتحدث في طرقات الحقول الوعرة…
- لماذا لم يزرع اخوتي الأرض يا ابي، تركوك وذهبوا؟
- لم تعد تكفي الزراعة لتعليمهم. ولم تعد تكفي لتطعمهم خبزا. لأنهم طلبوا العلم حتى إذا زرعوا يزرعون الأفضل. وهنا يا بني لا مدارس ولا جامعات. وأنت أيضا ستهجر يوما هذه الأرض.
قالها بغصة لم أفهم معناها في تلك الأيام. - ولماذا لا تكفي الزراعة يا ابي؟
- أرضنا صعبة يا بني وجبالنا قاسية وسهولنا نادرة. في الأرض يا بني أعشاب ضارة إن لم نقتلعها من الجذور ستأكل الزرع مهما زرعنا. لذا علينا أن ننقب الأرض ونحرثها جيدا ونلحق الجذور السامة لنقتلعها. وعلينا أيضا مكافحة الخلد وسائر الحشرات التي تأكل غلاتنا يا ولدي. والمياه بدأت تشحّ. يسرقونها ويحولونها إلى حيث يشاؤون ويبيعونها بإشارة الزعماء.
- لكن الماء غزيرة وكافية وأنا أغرق فيها…
- الماء يكفي اليوم، يا بني. لكن الزعماء لا يكتفون ولا يشبعون. ولأنه بقطع الماء يضمنون عودتنا إليهم وببيعها يكسبون. لكن الأيام القادمة لا تبشر بالخير. فمياهنا تذهب هدرا، ارضنا تعطش، زرعنا يموت، ومواسمنا تضربها الأعاصير ولا دولة تعوّض علينا…
- وماذا سنفعل بلا مواسم؟
- سنذهب لاستلام الإعاشة، ويجب أن نأخذ معنا الهوية، وبعدها يجب أن نشكر الزعيم.
- ومن أين يأتون بالإعاشة؟
- ربما من أرض الزعيم التي سقاها بمياهنا المسروقة ودعمها بضرائبنا المدفوعة للدولة. أو من الخارج. لقد أصبحت الزراعة يا بني تحتاج إلى علم. العالم سبقنا ويعطي انتاجا أفضل منا. لان دولته تساعده أما نحن متروكون. وتأتينا الإعاشة من الخارج عن طريق الزعيم الذي ربما يبيع ارضنا للخارج…
- يقولون بأنهم سيمدون خطوط الكهرباء فتتأمن المياه، وتتحسن الأحوال.
- الله يسمع منك يا ابني. لكن خوفي من أن الذين يسرقون الماء سيسرقون الكهرباء أيضا.
- ولماذا لا ترحل يا ابي؟
- لأنني لم أتعلم مصلحة ثانية. بالماضي كانت الأيام اصعب، ولم نتعلم… أما الذين استطاعوا أن يرحلوا فيبدو أنهم لن يعودوا… أما أنت فقد ترحل يوما. سترحل طلبا للأمانة والأخلاق والعدالة والكرامة، يا بني، التي لو وجدت لدى حكامنا، لكنّا أفضل الأوطان.
- وماذا سنفعل يا ابي.
صمت أبي، وقد أصبحنا على باب البيت، ثم قال: اذهب وشُف أمك ماذا تريد.
عمر هذا الحديث 45 سنة! لقد صدق أبي. هجرت أرضي، هجرت أرضي ليس كرها بأرضي بل خوفا على حياتي من مجازر الزعماء. فالحياة أغلى من الأرض والأرض وُجدت لخدمة الحياة. ومنذ عشرات السنوات عدت لأزرع أرض أبي وأرضي وأبنيها. لو تعملون كم كبيرة التكلفة وكم صغير الانتاج!
ومهما فعلنا فلن ينمو زرعنا ولن تصلح أرضنا ما لم نقتلع الفاسدين منها، ومن جذورهم.
وسلام على أرض السلام!
الأب عبدو رعد 7-7-2020