ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداساً في الصرح البطريركي، في بكركي، بمشاركة لفيف من المطارنة والكهنة.
وفي عظة بعنوان “الأحد الثَّاني من زمن العنصرة: أحد الثَّالوث الأقدس” قال الراعي: “ربُّنا يسوع، يوم صعوده إلى السَّماء، سلَّم كنيسته الناشئة، بشخص الرُّسُل، رعاتها، سلطانَه الإلهيّ المثلَّث الوظائف: الوظيفة النَّبويَّة بالتَّلمذة للإنجيل، والوظيفة الكهنوتيَّة بخدمة المعموديَّة، باب سائر أسرار الكنيسة، والوظيفة الملوكيَّة برعاية الجماعة على أساس ٍ من الحقيقة والمحبَّة. يمارِس رعاة الكنيسة سلطانهم الإلهيّ هذا بإسم الثَّالوث الأقدس، الآب والابن والرُّوح القدس، الذي تُحيي الكنيسة عيدَه في هذا الأحد. فهو السِّرُّ الأساسيّ والمحوريُّ للإيمان المسيحيّ وممارسته. فمِن الإله الواحد والثَّالوث كان الخلقُ بعمل الآب، والفداءُ بتجسُّد الابن، وبثُّ الحياة الإلهيَّة بحلول الرُّوح القدس. لولا الثَّالوث القُدُّوس، لما كان خلقٌ وفداء وشركة اتِّحادٍ بالله”.
وقال: “ما أحوج مجتمعنا اللُّبنانيّ ودولتنا إلى ثقافةٍ تعكس وجه الله في العمل السِّياسيّ بكلِّ أبعاده، التَّشريعيَّة والإجرائيَّة والإداريَّة والقضائيَّة، وبكلِّ مآله الاقتصاديَّة والماليَّة والمعيشيَّة والاجتماعية. لا يمكن القبول بعد الآن بدولةٍ مجزَّأةٍ بين أطرافٍ سياسيَّةٍ وطائفيَّةٍ تحتمي وراء مجموعةٍ من الأنظمة الخاصَّة بكلِّ واحدةٍ منها، بهدف حماية مصالحها المشروعة وغير المشروعة، التي تفرغ الخزينة، وتملأ جيوب أربابها والنَّافذين. فكيف يمكن أن تعيش الدَّولة وتلبِّي حاجات مواطنيها الذين أصبَحوا بنصفهم في حالة الفقر والجوع والبطالة والهجرة، فيما المال العامّ يُهدَر في عمليَّات التَّهريب عبر المطار والمرافئ والمعابر العديدة غير الشَّرعيَّة بين لبنان وسوريا؟ وكيف نطالب دولةً جعلوها أفقر من شعبها بنهبهم أموالها، من دون حسيبٍ أو رقيب، واليوم من دون أيَّة محاسبة من أجل استرجاع المال المنهوب؟”.
وأشار الراعي إلى أنّه “أنتم على حقّ، أيُّها الشَّباب والشَّابَّات، في ثورتكم، التي نريدها صوتًا واحدًا، مستقلاًّ وغير مسيَّس، محصَّنةً بوجه المندسِّين، حضاريَّةً ورفيعةً في أهدافها ومطالبها الواعية والمحقَّة. نطلقُها معكم صرخةً ضدَّ الفساد والهدر المتناميين، وضدَّ الغلاء الفاحش، وانهيار النَّقد الوطنيّ، وحجز رؤوس الأموال في المصارف. ونطلقُها معكم صرخةً بوجه كسل أجهزة الرَّقابة وتلكُّؤ القضاء، تحت تأثير التَّدخُّل السِّياسيّ، عن محاسبة الرُّؤوس الكبيرة والمسؤولة مباشرةً عن عمليَّات الفساد. معكم نطالِبُ بالإسراع في إجراء التَّعيينات الإداريَّة والقضائيَّة والمصرفيَّة، واتِّباع معايير الكفاءة والنَّزاهة، رافضين المماطلة مهما كانت أسبابها. ومعكم نطالِبُ الحكم والحكومة بوضع خطَّةٍ إصلاحيَّةٍ تنهض عمليًّا بالاقتصاد وتحسين معيشة المواطنين”.
وتساءل: “ألَيسَت هذه المطالب مشترَكة بين الشَّباب اللُّبنانيّ، من دون أيِّ ارتباطٍ بدِينِه أو طائفته أو حزبه أو منطقته؟ لقد أسِفنا لما جرى بالأمس بوضع هذه المطالب المشترَكة جانبًا، وتحويل التَّعبير عن الرَّأي بالشَّكل الدِّيمقراطيّ إلى مواجهةٍ بالحجارة وتحطيم المؤسَّسات والمحلَّات واستباحة ممتلكات النَّاس وجنى عمرهم، وتشويه وجه العاصمة، والاعتداء على الجيش والقوى الأمنيَّة التي من واجبها حماية التَّظاهرات السِّلميَّة. هذا كلُّه يعني، وبكلِّ أسف، أنَّ ما زالت تعشعش في القلوب مشاعر الضَّغينة والحقد والبغض. وهذا لا يتآلف وميثاق العيش المشترك”، مضيفاً: “وأسِفنا بالأكثر لإدخال المعتقد الدِّينيّ في الانقسام السِّياسيِّ وجعل هذا المعتقد وسيلةً للنِّزاع بالأسلحة. لماذا نعطي الأسرة العربيَّة والدَّوليَّة هذه الصُّورة المشوَّهة عن لبنان؟ وهل بهذه الممارسات النِّزاعية نساند الحكم والحكومة في توطيد الاستقرار الضَّروري للنُّهوض من حضيضنا؟”.
وقال الراعي: “أمَّا من جهة المسؤولين السِّياسيِّين عندنا فلا يحقُّ لهم أن يحكموا بذات الذِّهنيَّة والأسلوب، بعيدًا عن الخطِّ الذي يرسمه الدُّستور والميثاق الوطنيّ ووثيقة اتِّفاق الطَّائف نصًّا وروحًا. فكيف يمكن أن تأتينا المساعدات العربيَّة والدَّوليَّة من دون تأمين الاستقرار السِّياسيّ، وتصحيح الحوكمة، واعتماد سياسة الحياد، وشبك الأيادي وتوحيد الجهود؟ إنَّ الكنيسة، من جهتها ماضيةٌ في تنفيذ خطَّتها الإنقاذيَّة، الغذائيَّة والزِّراعيَّة والصِّحِّيَّة، وقد نسَّقت نشاطها بين الأبرشيَّات والرَّهبانيَّات والرَّعايا والأديار، ومع كاريتاس لبنان، والبعثة البابويَّة، والصَّليب الأحمر، وجمعيَّة مار منصور دي بول، والمؤسَّسة المارونيَّة للانتشار، والمؤسَّسة البطريركيَّة للإنماء الشَّامل، وسواها من المؤسَّسات والجمعيَّات الإنسانيَّة. والكلّ بهدف خلق شبكة تشمل كلَّ المناطق اللُّبنانيَّة. أودُّ هنا أن أوجِّه تحيَّة شكرٍ وتقدير لكلِّ ذوي القلوب المحبَّة والأيادي السَّخيَّة، الذين يمدُّون يد المساعدة للإخوة والعائلات في حالة الفقر والعوز، سواء بطريقةٍ مباشرة أم بواسطة المؤسَّسات الاجتماعيَّة والإنسانيَّة”.
الأحد 7 حزيران 2020