ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس. بعد الإنجيل المقدس، ألقى عوده عظة مما قاله فيها:
“كما أن محبة الله لا تتجزأ وهي تشمل الجميع، هكذا الأوطان لا تقسم وليست حكرا على أحد. الوطن لجميع أبنائه، من حقهم عليه أن يحتضنهم، ومن واجبهم تجاهه أن يحافظوا عليه ويعملوا على خدمته من أجل ازدهاره ونموه. ما يؤلمنا أننا وصلنا إلى هذه الأيام العجاف التي يميز فيها بين مواطن وآخر وطائفة وأخرى، ويرى الأرثوذكسيون أنفسهم مبعدين عن خدمة وطنهم، وانهم مرفوضون كما كان السامريون. إن الأرثوذكس، لمن لا يعرف، مستقيمو الرأي كما يسمون، وجذورهم عميقة في هذا الشرق. هم موجودون في هذه الأرض منذ نشأة المسيحية. جاء في أعمال الرسل أن التلاميذ دعوا مسيحيين في أنطاكية أولا (أع11: 26)، وأنطاكية كانت مركز بطريركيتنا التي أسسها الرسولان بطرس وبولس. أما كرسينا في بيروت، فقد أسسه الرسول كوارتس، أحد التلاميذ السبعين، المذكور في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية (16: 23). وبعده جاءت سلسلةٌ من الأساقفة شاء الرب أن أكون خلفاً لهم، وقد عملوا جميعهم على نشر كلمة الرب، ورعاية أبنائهم، وزرع المحبة والإلفة بينهم، وعلموهم حب الوطن واحترام الإخوة في الوطن والعمل معهم بتفانٍ وإخلاص من أجل خير وطنهم، ونحن على خطاهم سائرون.
نحن قوم لا نميز بين دين وآخر وطائفة وأخرى ولا نسمي أنفسنا طائفة لأننا أبناء كنيسة المسيح التي تعلم المحبة والتسامح والإنفتاح والحوار وقبول الآخر واحترامه والحفاظ على حريته وكرامته. لم نحمل يوما سلاحا ولا تقوقعنا في حزب أو مجموعة، حين حمل معظم الأطراف السلاح، ولا لطخنا أيدينا بالمحرمات أو مارسنا الموبقات. سلاحنا الوحيد حبنا لوطننا وتفانينا في خدمته. أبناؤنا بعيدون عن الفساد والمحاصصة وتقاسم المغانم. هم يؤمنون بالمساواة بين اللبنانيين ويطمحون إلى قيام الدولة المدنية العادلة، التي يتساوى فيها الجميع تحت حكم القانون. يستلهمون ربهم، ويطبقون تعاليمه، ويحتكمون إلى ضمائرهم، ويجاهدون من أجل الحفاظ على وطنهم وعلى كرامتهم. لم يخونوا وطنهم يوماً ولا أخاهم في الوطن، وكل مرادهم خدمة وطنهم مع سائر مواطنيهم. لكن المشكلة أن الآخرين يعاملوننا كالسامريين الغرباء.
ترى هل قصرنا في محبة وطننا وخدمته، أم عقدنا الصفقات المشبوهة، أم أسهمنا في نهبه وإفقاره، أم زرعنا الفتنة في شعبه؟ لطالما طالبنا بالعدالة والمساواة، وباحترام الدستور وتطبيق القوانين، ونادينا باعتماد المساءلة والمحاسبة والثواب والعقاب، وباتباع آليةٍ شفافةٍ في التعيينات يصل من خلالها أصحاب الكفاءة والخبرة والنفوس النزيهة والأيدي النظيفة. لكننا كمن ينادي في الصحراء. فعوض الافادة من طاقات أبنائنا ومعاملتهم كسواهم من أبناء هذا الوطن، تجاهلوهم على مر الأيام، ربما لأنهم لا يرفعون الصوت ولا يستعملون أساليب لا تشبههم. يبدو أن الصمت يعتبر ضعفا في زمن الزعيق الفارغ، والسلوك الحضاري يعتبر تراجعا.
لا يا سادة. من حق أبنائنا القيام بدورهم الوطني في كل المجالات. السلوك الحضاري من شيمنا، لكن كنيستنا، من رأسها غبطة البطريرك يوحنا العاشر وصولا إلى مسؤوليها وشعبها، تعبر بصوت واحد عن رفضها لهذه الممارسات بحق أبنائها وترفض الغبن والظلم والإجحاف اللاحقين بهم”.
وقال: “نحن ضد المحاصصة فهلا تخليتم عنها؟ نحن ضد الطائفية فهلا أعلنتم قولا وعملا رفضها؟ نحن ضد الزبائنية والمحسوبية وضد الفساد والصفقات واستغلال السلطة والنفوذ فهلا رفضتموها مثلنا؟ نحن مع الدولة المدنية العادلة فهلا تجرأتم وأعلنتموها؟
وإلا، وفي انتظار المدينة الفاضلة التي تقوم على العدالة والمساواة والحق والقانون، كفى استغباء لأبنائنا وإبعادا لهم. نحن شركاء لكم في هذا الوطن، وإلى أن تتحد شعوب هذا البلد في شعب واحد موحد ذي رؤية واحدة، لا تستثنوا أحدا من مسؤولياته، واعتمدوا معيارا واحدا في التعيينات يسري على الجميع. إذا كنا شركاء في الوطن علينا تقاسم المسؤولية والتسابق إلى بنائه وتدعيم أساساته. ومن واجب الدولة التشجيع على ذلك. في العائلة لكل فرد دوره، وفي الجسد لكل عضو وظيفته. كذلك الوطن، هو بحاجة إلى كل أبنائه، ولكل منهم ميزاته وإبداعاته.
ومن واجب الدولة تعيين الرجل المناسب والمرأة المناسبة في المكان المناسب مع الحفاظ على التوازن بين سائر المكونات. وإذا كانت حكومتكم لكل الوطن فحري بكم الإفادة من كل الطاقات بتواضع وحكمة، وإعطاء كل ذي حق حقه بلا منة. ولتكن رؤيتكم للدولة واضحة وشفافة، تتمحور حول تصويب الأوضاع، ومكافحة الفساد، ومعالجة تهاوي الاقتصاد، وانهيار الليرة، ومشاكل النفايات والمياه والكهرباء، وإيجاد فرص عملٍ تتيح للمواطنين الخروج من الفقر والجوع واليأس. وليكن هدفكم توحيد اللبنانيين حول هذه الرؤية ودفعهم جميعا إلى مساندتكم عوض رفضهم وإبعادهم واستثارة غضبهم واستيائهم. العدالة لا تكون في التمييز بين مواطن وآخر وطائفة وأخرى، وما يحق للواحد يمنع عن الآخر، وما يطبق على طائفة لا يطبق على أخرى.
في زمن الأزمات يتطلع الشعب إلى ذوي الفكر الصائب والرؤية الثاقبة وحكمة المسؤولية. يتطلعون إلى القامات المتواضعة لا إلى النرجسيين. يتطلعون إلى العمل والإنجاز لا إلى الكلام والإستعراض. يتطلعون إلى عدل الحاكم ومحبته لرعيته ويرفضون كل ظلم وتمييز وتشف وإقصاء واستفزاز واستضعاف”.
وختم عوده: “نحن نطمح إلى زمنٍ يحكمنا فيه الأحرار من كل شيء إلا من حب الله والوطن. التعنت والعناد والتشبث بالرأي (وهذه كلها مظاهر عبادة الأنا) والإصرار على الخطأ لا ينفع، والكبرياء تقتل صاحبها. سلم الفضائل الذي حدثنا عنه أحد كبار قديسينا طويل وشاق، والدرجة العليا فيه هي التواضع. فمن أراد الوصول إلى التواضع عليه أن يتمرس بالفضائل كافة كي يبلغه.”
الأحد 17 أيار 2020 الوكالة الوطنية للإعلام