ما هي السّياسة؟ قد تُفيد العودة للتّعريفات الأساسيّة، خاصّة وأنّ النّاس ما عادوا يعرفون المعنى الأساسيّ والصّحيح للسّياسة، بعد ما رأوه من خرابٍ وفسادٍ وتشويهٍ سبَّبَه بعضُ السّياسيّين. وهناك من لا يعرف معنى السّياسة لأنّ لا أحد شرحها له. أمّا السّياسة Politic فهي حكم المدينة أو تدبير شؤونها، أو كما عرّفها أرسطو بأنّها “حكم البعض لإحقاق الخير العام”.
ويُعرّف “المنجِد” السّياسة بأنّها “فنّ الحكم وإدارة أعمال الدولة الدّاخليّة والخارجيّة، وهي تدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة، وهي علمٌ يُعالج الثّروات العامّة وفنّ إدارة الأحكام”. وتتوسّع دائرة العمل السياسيّ من دائرة الاهتمام بأمور الفرد والعائلة لإدارة المجتمع والمجتمعات والدّولة والعلاقات بين الدّول.
أمّا الأسفار المقدّسة فنراها تقول أنّ الله صمّم أن يكون الإنسان كائنًا سياسيًّا وأعطاه السّلطة لتدبير أموره الحياتيّة في الأرض (تك 1: 26-31). والله خَلَقَ الإنسان ليكون على صورته ومثاله سيّدًا وصاحب سلطان. وبالتّالي يكون الله هو “القائد السياسيّ المِثال” والإنسان هو “القائد السياسيّ الصّورة طبق الأصل عنه”.
ومن يدرس تلك النّصوص المقدّسة يجد أنّ “التّكليف السّياسيّ للحكم” أُعطِيَ للإنسان قبل “التّكليف الدّينيّ للعبادة”. فالله أراد أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّة الأرض والعمل فيها وحفظها وتدبير شؤونه الحياتيّة فيها وذلك بغضّ النّظر عن أرادته في أن يكون مؤمنًا عابدًا أو لا.
وهكذا بالإمكان القول أنّ الله، وبفعل إرادةٍ واعيةٍ وحكيمةٍ منه، زرع السّياسة في الطّبيعة الإنسانيّة، وهو أسّسها في المجتمع البشريّ، ليُمارس الإنسان الحكم والسّيادة على الأرض. وبالتّالي يُنظَر إلى السّياسة على أنّها حقّ طبيعيّ ومقدّس في آنٍ كما قال كلّ من هيوغو غروتيوس (1583-1645) وجون لوك (1632-1704). هذا المفهوم يُخالف الرّأي الشّائع أنّ إبليس هو مَنْ عَمِلَ السّياسة ويعمل بها. وفي الواقع، إبليس لا يعمل شيئًا لخير النّاس وهو يُفسد كلّ أمرٍ حسَنٍ أعطاه الله للإنسان، بما فيه السّياسة، وذلك ليُسيء للخالق وللمخلوق في آنٍ.
وهكذا نرى أنّ ممارسة السّياسة في المجتمع الإنسانيّ هي “فعل طبيعيّ”، حسبما قال توما الأكوينيّ (1225-1274) الّذي وافق أرسطو بقوله أنّ الإنسان هو كائن سياسيّ يحيا في مجتمع سياسيّ. وبالتّالي نرى أنّ الحكّام يقومون بالفعل السياسيّ للخير العام المتمثّل بسعادة الأفراد والحياة المشتركة في المجتمع وليس لمصلحة الحاكم الخاصّة. وعلى الحاكم والسّياسيّ أن يتدبّرا خير الناس بالحكمة والخبرة، “فحيث لا تدبير يسقط الشّعب” (أم 11: 14). وهكذا تندرج السّياسة تحت باب الحِرَف والفنون والمهارات الضروريّة لتدبير شؤون الإنسان والمجتمع. فحيث وُجِد تجمّع بشريّ لأكثر من شخصين كان لا بدّ من سياسة وحكم وإدارة وتنظيم تحميهم من الفوضى والتّقاتل. وإن كانت السّياسة هي هِبَة إلهيّة للإنسان ليتدبّر شؤونه، فهي أيضًا كسائر الحِرف والفنون والمهارات الضّروريّة تحتاج للصّقل والتّنمية مع الوقت وفي الاستخدام.
ينظر المؤمن المسيحيّ إلى السّياسة على أنّها عطيّةٌ نازلةٌ من فوق ويجب استخدامها بأمانةٍ ومسؤوليّةٍ وبروحيّةٍ سماويّةٍ ساميةٍ ونبيلةٍ هدفها خدمة الإنسان. إذًا، السّياسة ليست فنّ المناكفات الكلاميّة الّتي يعيشها العامّة، ولا هي مُجرّد صراع دنيء على السّلطة، بل هي “فنٌّ شريفٌ”، كما يُسمّيها المجمع الفاتيكاني الثّاني (1965)، تهدف إلى تحسين وضع الإنسان وخير المجتمع البشريّ. والسّياسيّ هو من يقوم بخدمة أخوته البشر بما يُرضي الخالق وهو يفتكر أنّه سيقف يوم ما أمام الله ليُقدّم حسابًا عن وكالته.