خاص – فكتوريا موسى
لطالما تميّزت بلدة الفرزل البقاعية بتاريخها وموقعها. سهل البقاع من أمامها والجبل من ورائها، حيث تستلقي على السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان الغربية. ولعلّ هذا الموقع الاستراتيجي استقطب اليها أقدم الشعوب والحضارات التي خلّفت آثارا ما يزال الكثير منها مطمورا. “مغر الحبيس” احد هذه التركات التي قصدنا زيارتها وهو مجموعة كهوف منحوتة في الصخور الشاهقة للبلدة. (شاهد الفيديو)
لحظة وصولنا إلى الفرزل، أطلّ علينا مغر الحبيس من عليائها فارضا سحره وهيبته، رغم الإهمال الرسمي اللامبالي بتاريخه وألغازه. وقبل الانطلاق صعودا، عرّجنا على مبنى البلدية وفي جعبتنا أسئلة كثيرة عن الموقع.
رئيس البلدية ملحم الغصّان ردّ على تساؤلاتنا بأن الكنعانيين القدماء حفروا كهوف الفرزل منذ ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد وربما اكثر، لأنهم أرادوا السكن في أراض خصبة للزراعة، وغزيرة المياه في آن، وسخّروا الطبيعة في سبيل بقائهم.
وأوضح لBekaa.com ان بعض المصادر التاريخية يلحظ احتمال العيش في الكهوف منذ العصر الحجري، كاشفا عن اثار هيكل قديم في سند الجبل وامامه مسلة عامود مصرية الشكل.
يروي لنا الغصّأن أن بعد آلاف السنوات، استوطن الرومان الموقع ووسعوا اعمال الحفر وحدّثوا المكان. ومع هجرة المسيحيين الأوائل، أصبح ملجأ للهاربين من الاضطهاد. وفيما تشير الروايات المتناقلة الى ان الرهبان استخدموه لاحقا، أوضح الغصّان أن هؤلاء لم يتركوا رموزا دينية تثبت أنهم أطالوا مدة سكنهم.
ردا على سؤال عن تأهيل الموقع، لفت رئيس البلدية الى ان وزير السياحة السابق نقولا فتوش أبدى اهتماما كبيرا به من خلال إضاءته كمتحف أثري ليلي قبل أن تتعرض أدوات الإضاءة للسرقة في فترة لاحقة. وأكّد أن البلدية ساهمت بدورها وضمن قدراتها بتسهيل وصول الزوار، فبنت درجا يؤدي الى المكان يمكّن المتسلقين من دخول المغاور. كما شقت طريقا الى منحوتة مخروطية نادرة اكتشفت على الصخور الشامخة المحيطة بالمغر والمطلة على منحدر عميق.
ليس سهلا الوصول الى المنحوتة من دون سيارة رباعية الدفع. لذلك وبتسهيل من البلدية، أقلّنا رئيس شرطة الفرزل موريس سيدة في مغامرة مذهلة في أحضان الطبيعة برفقة الصديقين كارلوس ابو نجم وغادة سيدة المقيمين في البلدة.
تدعى المنحوتة “القسيس والقسيسة” وتجسد رجلا وامرأة قد تكون الإلهة الرومانية فينوس كونها عارية الصدر ونحيفة القامة، وقد تعود الى حقبة أقدم من ذلك ونحتت وفق معتقدات أهل المنطقة. وفي نظرة أولية، يبدو للمشاهد أنها مهداة إلى أتارغاتيس إلهة الخصوبة عند الكنعانيين، نسبة الى سنابل القمح المنقوشة والتي ترمز الى الخصوبة، وعنقود العنب الذي تحمله المرأة بيدها ويرمز الى الزراعة في الفرزل وسهل البقاع. ويظهر في المنحوتة ايضا رجل يبدو كملك أو إله على صهوة حصانه، يتمايل رداؤه مع ذيل الحصان، وفوق رأسه هالة ويمسك بيده كرة.
الرحلة تواصلت صعودا، حيث حُفِرت قنوات من رأس الجبل الى أسفله بهدف ايصال المياه الى داخل الكهوف والى الآبار.وما زالت القنوات ظاهرة حتى اليوم. كما رسمت الطبيعة بدورها لوحات ووجوها، وتراءى لنا من بعيد وجه انسان يصرخ تارة، ورأس حيوان فاتحا فاه تارة أخرى.
ترجلنا من السيارة لتسلق الكهوف في جولة محفوفة بالمخاطر. كثير من الانتباه مطلوب لبلوغ الكهف الأول حيث جلسنا على المقاعد الحجرية نفسها للكنعانيين والرومان. في الداخل هدوء غريب يأسر النفوس أمام لوحة طبيعية خلابة لسهل البقاع.
محطتنا التالية انتهت بالتسلق الى كرسي الملك والملكة، أو الإله والإلهة على عرشيهما الصخريين، ومن ثم صعودا الى مدافن الملوك.
فوق مدخل المدافن اشارة “دلتا” للدلالة على موقع سامٍ. وفي الداخل حفريات لتسعة نواويس نقلت من المكان.
آثار دفينة
لم نستطع التقدم اكثر لاستكشاف مزيد من الكهوف لوعورتها وعدم جهوزيتنا. وقررنا النزول الى وسط البلدة لزيارة مواقع اخرى، إذ تزخر الفرزل بمخلفات ما زالت مطمورة تحت المنازل، ومن بينها آثار رومانية ضخمة (معابد) ما تزال جدرانها منحوتة برموز وأبجدية لاتينية وما يزال سقفها متينا كما لحظت أعمال الحفر في المكان. أخبرنا الأهالي ان هناك قلعة في احدى تلال البلدة متصلة بالمعابد بواسطة نفق تحت الأرض.
عام 2016، تم اكتشاف ناووسين وهياكل عظمية رفض رئيس البلدية اخراجها من البلدة وأصر على نقلها الى الحديقة العامة.
توقفنا أيضا، عند دير اثري تابع لكنيسة سيدة النياح التي يعود تاريخ بنائها لقرون، بالاضافة الى كنيستي القديس جرجس و”سيدة البشارة” التي شيدت منذ نحو ثمانين عاما.
فضلا عن ذلك، تعتبر الفرزل من البلدات العريقة التي يعود تاريخها الحديث بحسب بعض المؤرخين الى القرن الرابع بعد الميلاد وقد أُحرقت مرات عدة. واحتضنت البلدة المقر الرئيسي لأبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك التي تأسست اوائل القرن الخامس قبل ان ينتقل الكرسي بعد قرون الى زحلة عام 1727.
نبذة عن خطط الإنماء
أكد لنا الغصّان أن المياه في الفرزل تصل الى كامل البلدة بعد استصلاح البلدية شبكة مياه جديدة وحرصها على ابقاء المسألة بعهدتها وعدم تسليمها الى وزارة الطاقة. وقد حفرت البلدية بئرا ارتوازيا وجهّزته بمضخة مياه ضخمة بدعم من جهات مانحة. ويتم حاليا بناء خزان للمياه.
وكانت بلدية الفرزل سباقة الى بناء محطة صرف صحي وتحديث الشبكات ووصلها بالمحطة. كما افتتحت منذ أقل من شهر مشروع تجهيز مياه الشفة بالطاقة الشمسيّة كهبة مقدمة من النائب ميشال ضاهر، وتسعى الى تركيب اشارات مرور عند مدخل البلدة – (مفرق الفرزل) حفاظا على السلامة العامة فضلا عن الاهتمام بالنظافة العامة بحيث تعتبر الفرزل نموذجية في هذا المضمار.
ولكل ذلك، ينكب التركيز حاليا على متابعة برامج التنمية بانتظار ايلاء الإدارات المعنية الفرزل العناية اللازمة لنقلها الى مصاف البلدات السياحية العريقة.
Bekaa.com – 09-10-2019