عندما تبلغ الأزمة حدّ تبادل الاتهامات و تقاذف المسؤوليات بين مواقع القرار، فهذا يعني بأن المشكلة دخلت مرحلة صعبة وأن المسؤولين غير متفائلين بإيجاد الحلول. أظهرت الأيام الأخيرة إرهاصات أوّلية لانزلاق البلاد نحو الجدالات الصاخبة، وتحويل الأزمة النقدية إلى “حفلة” اتّهامات سياسية، والأمثلة على ذلك عديدة.برز الاقتصادي شربل قرداحي منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون كخبير مطّلع، يفكر بعقل هاديء ومنهجية علمية. وقد لعب دورا مؤثّرا في الطروحات المتعلقة بالموازنة لكونه المستشار الاقتصادي للتيار الوطني الحرّ ورئيسه الوزير جبران باسيل. لكنه، في الأزمة الراهنة، انحاز إلى الاجتهادات السياسية أكثر من التحليل الاقتصادي،  ممّا جعله يدلي بآراء مثيرة للجدل.بعد سلسلة من “التغريدات” التي بثّها في الأسبوع الماضي، أدلى الخبير قرداحي بحديث إلى جريدة “الأوريان له جور” استغرب فيه توقّف مصرف لبنان عن الاستمرار في تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية عن طريق ضخّ المزيد من الدولارات في سوق القطع، طالما أنه يملك ثلاثين مليار دولار. ومن المعروف أن هذه المليارات الثلاثين هي كل ما تبقّى للمصرف المركزي من أموال تجمّعت، بشكل أساسي، من ايداعات القطاع المصرفي لديه، التي بلغت في تمّوز الماضي، حسب نشرة جمعية المصارف، 147 مليار دولار نصفها على الأقلّ بالعملات الأجنبية. فاقت ايداعات المصارف في المصرف المركزي كل الحدود المعقولة، وهي لا مثيل لها في النظم المصرفية في العالم. إنها تشكّل 250 المئة من الناتج المحلي القائم وتزيد على 55 بالمئة من موجودات المصارف اللبنانية ككل.لذلك، فإن أي خبير اقتصادي موضوعي لا ينتقد مصرف لبنان لأنه أوقف الآن هدر موجوداته لدعم سعر الصرف، بل لأنه تأخّر كثيرا في الإقدام على هذه الخطوة، التي كان يجب أن تتم عندما، في تاريخ سابق لا نعرفه، أصبحت مطلوبات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية تفوق موجوداته بهذه العملات.دعم سعر الصرف المستمرّ بواسطة موجودات مصرف لبنان أدّى إلى إضعاف ميزانية المصرف بشكل لا سابق له، وساهم في حجب التمويل عن الاقتصاد اللبناني وحمّل المالية العامّة أعباء فوق أعبائها. في إصراره على دعم الليرة “بأي ثمن” كان المصرف يطبّق المهمّة التي أوكلتها إليه الدولة، لأن الطبقة السياسية فضّلت دائما تأجيل الاستحقاقات على انفلات سعر الصرف، وتحملها أثمانا سياسية تجاه المجتمع اللبناني المرهق. إن الطريق الشرعي السليم لدعم الليرة اللبنانية هو في تنشيط الاقتصاد وتنظيف مالية الدولة من مشاكلها الجسيمة وتحسين الممارسة السياسية والدستورية وتعزيز سلطان الدولة، وهذا كله بيد الدولة والأطراف السياسية، وليس بيد مصرف لبنان.يجري الاعتداد بين الحين والحين “بعظمة” احتياطات مصرف لبنان وقدرتها على التحكّم بسوق القطع، دون الإشارة إلى مكامن الضعف في هذه الاحتياطات، أقلّه للأسباب التي وردت في هذا المقال.من جهة أخرى، يُقال بأن هذه الموجودات مدعومة باحتياطي الذهب الذي يبلغ 287 طنا، وقيمته في الوقت الحاضر تفوق 13 مليار دولار. والحقيقة أن ذهب مصرف لبنان لا يعوّل عليه كاحتياطي تحت الطلب لحماية الليرة أو لأي سبب آخر، لأن القانون 42/86 يحظّر التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.الأهمّ من ذلك هو ما نبّهت إليه حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” من أن القسم الأكبر من مخزون الذهب خارج عن سيطرة الدولة اللبنانية وقوانينها، لأنه مودع في قلعة “فورت نوكس” الأميركية التي لا تعيد الذهب إلى أصحابه عند أوّل طلب، بل تضع دون ذلك شروطا وعراقيل، كما حصل مع العديد من البلدان. ذهب لبنان خاضع بالتالي لولاية القضاء الأميركي في حال نشوب أي نزاع قضائي بين الدولة اللبنانية وأي فريق آخر. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ بدء استدانة الدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية وافقت على التقاضي أمام محاكم نيويورك في حال تخلّفها عن سداد ديونها، وهو احتمال لم يعد من عالم الخيال، بل تتداوله الألسن والتقارير منذ حين. إذا لم يسترجع الذهب اللبناني ويعاد إلى كنف الدولة اللبنانية، فأي تعثّر في ملاءة لبنان تعني نسيان القسم الأكبر من هذه الثوة النائمة على الفور.

د. غسان العياش – جريدة النهار – 02-10-2019

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *